السيطرة على منطقة الشرق الأوسط تعني التحكم في الكثير من المتغيرات في السياسة الدولية. هذا الكلام معروف منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ومستمر إلى يومنا هذا، لذا فإن أكثر الأحلاف العسكرية والسياسية الدولية كانت بسبب هذه المنطقة الجغرافية. و«ضبط إيقاع» منطقة الشرق الأوسط أمنياً يعني السيطرة على الجزء الأكبر من حالة الفوضى التي يمكن أن تصيب العالم لسببين: السبب الأول؛ أن أكثر من 70 في المئة من احتياجات العالم من الطاقة تقع في هذه المنطقة أو تمر من خلالها. السبب الثاني؛ أن هذه المنطقة، ومعها دول «شمال أفريقيا»، منبع للكثير من القلاقل الأمنية التي تهدد استقرار العالم، وبالتالي فإن وجود دولة عظمى مثل الولاياتالمتحدة لديها القدرة على السيطرة على المنطقة والعمل على الحفاظ عليها أمر عادي وطبيعي، وبالتالي تكون مسألة التراجع السياسي للولايات المتحدة والانكفاء الداخلي أمراً مستغرباً. وانطلاقاً من هذه القاعدة النظرية، فإن كل الرؤساء الذين مروا بالبيت الأبيض في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانوا يضعون اعتباراً خاصاً للمنطقة، وتكون ضمن أجنداتهم السياسية التي يقاس بها مدى نجاح فترتهم الرئاسية أو فشلها، لاسيما أن التنافس على النفوذ أيام الحرب الباردة كان منصباً عليها. لهذا كان من السهل أن تسمع عن قيام حرب بالوكالة من أجل السيطرة على المنطقة، مثل الحرب بين إيران والعراق، وكذلك حرب أفغانستان. ولو رجعنا بالذاكرة قليلا، سنجد بعض الأحلاف السياسية للحفاظ على الاستقرار في المنطقة وفق المصالح الدولية وليس مصالح أبناء مجلس التعاون لدول الخليج العربية. والقواعد الأميركية المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط إنما هي تأكيد لأهمية المنطقة في الاستراتيجية العالمية، بل إن هناك قوات أميركية أنشئت من أجل التدخل السريع في هذه المنطقة تحديداً إذا لزم الأمر. والإدارات الأميركية المتعاقبة واصلت إرسال إشارات تدل على عدم السماح بالمس باستقرار المنطقة، سواء من داخل دول المنطقة أو خارجها. ونتذكر أنه في عهد رونالد ريجان تم قصف القصر الرئاسي في ليبيا في عام 1985، وقاد بوش الأب حلفاً دولياً لإخراج جيش صدام حسين من الكويت، وتدخل بيل كلينتون في كوسوفو، وخاض بوش الابن الحرب ضد الإرهاب في العالم. واليوم هناك جدل كبير حول وضع الاستراتيجية الأميركية في المنطقة وفي العالم، بعدما سجل الرئيس الأمريكي باراك أوباما تراجعاً كبيراً كانت نتيجته عودة نشاط تنظيم «القاعدة» في العديد من مناطق الشرق الأوسط وأفريقيا، سواء من خلال التنظيمات التي تحمل أفكار « القاعدة» مثل «داعش» «النصرة»، أو التنظيم الأم نفسه بعدما بدأ أيمن الظواهري يستعيد تأثيره على تلك الحركات. ومن نتائج تلك السياسة أيضاً، استمرار الرئيس بشار الأسد في تهديد استقرار المنطقة بأكملها بالتعاون مع إيران. وهناك حركة «بوكوحرام» في نيجيريا، كما أن اليمن تنشط فيه «القاعدة» والحوثيون. إن العمليات الإرهابية خلال فترة الرئيس أوباما تعددت، بما فيها عمليات داخل الولاياتالمتحدة، مثل تفجير بوسطن وعمليات القتل باسم الدين. المراقبون السياسيون يرون في نتائج ما يسمى «الربيع العربي» أفضل برهان على مدى تراجع القوة العالمية الأولى، حيث ظهرت تهديدات لدول رئيسية مثل مصر، ما كاد يؤدي إلى تهديد استقرار المنطقة، وكذلك تلاعب إيران بملفات المنطقة بدءاً بالوضع العراقي الداخلي الذي بات يدار من إيران. بل إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استوعب الصورة كاملة، وبدأ إعادة ترتيب أوراق بلاده للعودة إلى الساحة الدولية. الكل قرأ حقيقة الموقف الأميركي وفهمه وبالتالي «أمن العقوبة». أما تمادي إيران فيمكن استخلاصه من موقفين سياسيين خلال هذا الأسبوع؛ الأول كان للجنرال إبراهيم همداني عندما قال إن بلاده «مستعدة لإرسال 130 ألف مقاتل من الباسيج إلى سوريا، ولإنشاء حزب الله السوري». أما الموقف الثاني فكان من مستشار المرشد الإيراني الأعلى؛ يحيى صفوي؛ عندما أعلن أن حدود إيران تصل إلى جنوبلبنان. ما أريد قوله هو أن الخيارات السياسية الأميركية تؤثر على إيقاع العالم سياسياً، فإذا كانت فترة ريجان وعائلة بوش أوضحت أن المتغيرات العالمية تحت السيطرة، وكذلك فترة بيل كلينتون الذي كان يفضل «الاستراتيجية الوقائية» من خلال ضرب الإرهابيين في مقراتهم، مثل ضرب بن لادن في جبال أفغانستان والسودان أو من خلال تطبيق مبدأ «الاحتواء المزدوج» بمحاصرة صدام حسين وكذلك إيران، فإن فترة أوباما تُعتبر الأضعف، بل إن حالة الفوضى بدأت الانتشار على مستوى العالم، وهناك حالة من الانتشاء لدى الحركات المتطرفة في المنطقة. ولو مسحنا الخريطة السياسية فإنها تؤكد أن منطقة الشرق الأوسط كلها تعاني عدم الاستقرار. ويعتقد بعض الناس أن مجرد الحديث عن أهمية التدخل الأميركي في السياسة الدولية إنما هو دعوة إلى الحرب والقتال. لكن الأمر في حقيقته ليس دائماً كذلك، فأحياناً يكون التهديد باستخدام القوة أحد أدوات «القوة الدبلوماسية» للدول، وقد نجح ذلك في الكثير من المواقع في العالم. والمشكلة أنه حتى هذه الدبلوماسية في عهد أوباما غير موجودة. إن كل الذين تعودوا على تجاوز القوانين ولا يفهمون إلا لغة القوة أو « العصا الغليظة» أدركوا عجز السياسة الأميركية، فبدؤوا يتجرؤون ويمارسون أعمالهم، بل صارت بعض المراجع الإقليمية تشعر بأنها الأقوى، مثل إيران. وهناك حيرة لدى المراقبين في تفسير حالة الصمت الأميركي إزاء ما يحدث في العالم، لكن لابد أن يدرك أوباما أن سياسته ستجر الكثير من الخسائر على العالم، بما فيه الولاياتالمتحدة. وفي الواقع، فإن منطقة الشرق الأوسط هي «رمانة ميزان» الاستراتيجية العالمية، وبالتالي فإن اهتمام الرؤساء الأميركيين بها ليس فقط من أجل منافسة القوى الدولية الأخرى، ولكن لأنها منبع أغلب الحركات والتنظيمات التي يمكن أن تهدد استقرار العالم، ولأن في هذه المنطقة دولا تعمل على تغذية مثل هذه الحركات! نقلا عن صحيفة الاتحاد