تصلح حالة ايران الحالية، كدولة متوسطة الحجم والقدرات، في خضم تجاذبات السياسة الدولية، حالة دراسية نموذجية، لتأمل التحولات الطارئة على موازين القوى الدولية وعلاقاتها في العقد الاول من القرن الجديد. ولو عدنا قبل ذلك لنلقي نظرة استعادية على مسار هذه المسألة في القرن العشرين، فإننا بعد الاتفاق على ان هذا القرن قد بدأت شخصيته تتبلور بعد الحرب العالمية الاولى (1920)، وتفككت هذه الصورة، لتخلي الطريق امام تكوّن شخصية القرن القادم، في بداية العقد الاخير، اي ،1990 سنجد ان عنصرين اساسيين ظهرا كمحاولات لضبط وتنظيم توازن العلاقات الدولية للقوى الكبرى التي ظهرت وتحكمت بمصير العالم بين 1920 و1990 (المرحلة المعبرة تماما عن روح القرن العشرين وشخصيته)، هما عنصر القانون الدولي، وعنصر الحرب الباردة، بالترافق مع تجربة مريرة تجلت في الحرب العالمية الثانية، ساهمت هي الأخرى (الى جانب العنصرين الأولين) في تشكيل قواعد التفاعل بين القوى الاساسية في المجتمع الدولي. لقد بدأ هذا القرن العشرون بانهيار امبراطورية قديمة، هي الإمبراطورية العثمانية، وانتهى بانهيار إمبراطورية جديدة هي الاتحاد السوفييتي. وشهد ولادة منظمتين دوليتين: عصبة الأممالمتحدة، وهيئة الأممالمتحدة، واختفاء أولاهما. لقد اكتشف الفلاسفة الإنسانيون، في مطلع هذا القرن العشرين، بعد افتتاحيته التراجيدية في الحرب العالمية الاولى، تتويجا لكل تراكمات الحياة الدولية في القرن التاسع عشر،ان آفة التقدم الانساني الذي بدأ يسير في القرون الحديثة بوتيرة مذهلة في سرعتها، ان التقدم العلمي الهائل لم يواكبه تقدم في القيم الاخلاقية التي تحكم علاقات المجتمعات الدولية، بل واكبه، على العكس من ذلك، تراجع في هذه القيم الاخلاقية. وبما ان الذين يحكمون العالم، قديما وحديثا، هم من طبقة السياسيين، وليسوا من طبقة الفلاسفة، لم يكن متوقعا ان تعطي هذه الملاحظة الفلسفية الاخلاقية كل ثمارها، لكن لم يكن من الممكن ايضا تجاهلها من قبل رجال السياسة تجاهلا تاما، ان لم يكن لأسباب ضميرية وخلقية، فلأسباب سياسية عملية، ذلك ان الحرب العالمية الاولى قد اثبتت، كما فعلت الحرب العالمية الثانية بعد ذلك، ان وضع ثمار التقدم العلمي في الاسلحة والمواصلات، بين ايدي قادة سياسيين لا يقيمون وزنا للقيم الاخلاقية، او الضوابط الاخلاقية في حدها الادنى، يمكن ان يصل بالبشرية الى حالة يؤدي معها صراع الجبابرة الى تدمير الكرة الارضية وفناء البشرية. وهذا ما اثبتته، اكثر من الحربين العالميتين، التجربة العملية الوحيدة في استخدام تطور السلاح النووي الامريكي، في مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين. الثمرة الاولى، والاضعف لتفاعل هذه الملاحظة الفلسفية بشأن التناقض بين التقدم العلمي، والتقدم الاخلاقي، كانت منظمة عصبة الامم، في محاولة خجولة أولى لايجاد ضابط ايقاع للنزاعات الدولية، يضعها في دائرة لا تؤدي الى الحرب. لكن عودة اندفاع رواسب القرن التاسع عشر الى الفوران بين الانظمة الرأسمالية والاشتراكية من جهة والنازية والفاشية من جهة أخرى، ما لبثت ان عصفت بهذه المحاولة الانسانية الاخلاقية الاولى، لتخلي مكانها لمنظمة اكثر تماسكا ونضجا، هي هيئة الاممالمتحدة، التي صاغت مبادئها ومواثيقها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية: المعسكر الرأسمالي، والمعسكر الاشتراكي. غير ان التجربة العملية لفعالية هذه المنظمة الجديدة، تبلورت عن افراغ كامل لها من قدرتها الحقيقية على ضبط ميزان الصراعات الدولية، رغم كل ما بذل من جهد فكري وانساني خلاق في صياغة مواثيقها المتعددة والتي لم تترك حقا من حقوق المجتمعات والافراد لم تنص عليه، وتضع له الضوابط والمعايير، وتعبر قبل ذلك عن روحه بانسانية وعمق وحكمة. ليثبت مرة اخرى ان القوة الخلقية لا فعالية لها في ساحات السياسة الدولية، وأن الفعالية للقوة المادية وحدها، المحكومة حتما بمسيرة للتقدم العلمي لا تضبطها ضوابط خلقية. لذلك، وبعد سرعة ظهور هذا التناقض بين القوة الاخلاقية والقوة المادية في ادوار هيئة الاممالمتحدة العملية في السياسة الدولية، لم يلبث هذا النظام الدولي الجديد، ان افرز من داخله عنصراً عملياً آخر لضبط التوازن وايقاع تفاعلات الصراع في ساحات السياسة الدولية، اطلق عليه فيما بعد اسم “الحرب الباردة” بين عملاقي الحياة الدولية والمجتمع الدولي: المعسكر الرأسمالي، والمعسكر الاشتراكي. والحقيقة ان هذا العنوان (الحرب الباردة) لم يكن شديد الدقة، ذلك انه الى جانب كثير من جوانب الصراعات الباردة (الدبلوماسية، والمخابراتية، والنفسية، والاعلامية، والثقافية)، تميزت مرحلة “الحرب الباردة” هذه بعدد غير قليل من الحروب الساخنة المحدودة: حرب كوريا، حرب فيتنام، حرب تأسيس “اسرائيل”، حرب تأميم قناة السويس، حرب الخليج وسواها. وكان دور هذه الحروب الصغيرة (بعضها كاد يتحول الى حرب كبيرة كحرب كوريا) يشبه في العصور الحديثة المبارزات المحدودة التي كانت تجري بين افراد في العصور القديمة، للاحتكام الى نتيجتها في حسم النزاع، بدل تكبد مشقات وويلات الحروب الكبيرة. المشهد الدولي الجديد الذي حرك كل هذه الملاحظات واستدعاها، هو مشهد زيارة التحدي التي قام بها الرئيس الروسي بوتين لإيران، مقدما لها تعهدا صريحا باستكمال بناء مفاعل “بوشهر” النووي المركزي، وسط ضغط شديد تقوده امريكا للحؤول دون تحول ايران (بالطاقة النووية) من دولة متوسطة عادية، الى دولة متوسطة من الدرجة الاولى. وكان غريبا ان تندفع دولة كبيرة، مثل فرنسا، الى التماثل مع لعبة الضغط الامريكية، بحماسة تفوق حماسة واشنطن نفسها، في محاولة لاحراج بقية الدول الاوروبية الكبرى المترددة في هذا الموضوع، مثل المانيا، بين التلويح بالضغط العسكري والتلويح بتشديد العقوبات الاقتصادية. لا شك بأن عوامل مصلحية خالصة (وليست عوامل خلقية) هي التي دفعت روسيا لتلعب هذا الدور المتوازن الى جانب ايران، في مواجهة ضغوط امريكية واوروبية، تبدو غير مفهومة، وحتى غير خلقية، اذا ما قورنت بالموقف الامريكي- الاوروبي من دعم تفرد “اسرائيل” بامتلاك السلاح النووي في منطقة الشرق الاوسط. ان هذا المشهد، على محدوديته، ومن غير المبالغة في تحميله ما لا يحتمل من معان ومفاعيل، يمثل عودة الى عنصر الحرب الباردة وقيمها، في ايجاد قوة توازن فعالة في ساحة الصراعات الدولية، بعد ان ثبت عمليا، وعلى مدى قرون عديدة (وليس القرن العشرين وحده)، ان الهوة ما بين التقدم العلمي والقيم الخلقية، ستظل هوة سحيقة، تستدعي استيلاد آليات عملية أخرى للتوازن في الحياة الدولية.