في محاولة لرد الجميل، قررت سلطات مدينة الأقصر الأثرية بجنوب مصر، إقامة احتفالية دولية لتكريم مكتشف معابد الكرنك، عالم المصريات الفرنسي الشهير جورج لوجران، بجانب دراسة إطلاق اسمه على احد المعالم الحديثة في الأقصر، وإقامة جناح دائم لعرض مقتنياته الخاصة، مثل العربة التي كان يستخدمها، وذلك في مركز الزوار الذي تجري إقامته ضمن مشروع تطوير ساحة الكرنك. وحسبما يقول الدكتور سمير فرج، رئيس المجلس الأعلى للأقصر يأتي هذا التكريم تقديرا لدور لوجران التاريخي في اكتشاف الآثار المصرية وحمايتها، موضحا أن الاحتفالية، التي ستقام بالتعاون مع وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للآثار المصرية ستتم خلال شهر أغسطس القادم، الذي يوافق مرور 90 عاما على وفاة جورج لوجران. ويأتي قرار سلطات مدينة الأقصر بإقامة احتفالية دولية لتكريم لوجران، بعد أيام من بدء عملية هدم منزله المقام في ساحة معبد الكرنك، الذي أثار قرار هدمه جدلا واسعا بين الأوساط الأثرية في كل من مصر وفرنسا. يعد لوجران «رجل الكرنك» بامتياز، كما يطلق عليه بعض علماء المصريات، فهو مكتشف خبيئة الكرنك وكاشف أسرار معبد آمون رع، كما أنه وبعد مرور 90 عاما على وفاته، ما زالت محصلة ما أنقذه من تماثيل الخبيئة لا تعادلها أية تماثيل ثراء على الإطلاق، فحتى وفاته في 1917 ظل معبد آمون رع وملحقاته شغله الشاغل، والمبرر الوحيد لوجوده فعليا، بل إن ولعة بالحضارة المصرية القديمة دفعه لأن يرسم صوراً زيتية بالقطعة ليكسب قوته، وما يتبقى له من وقت ومال كان يكرسه للبحث العلمي، فتوالت مقالاته وأبحاثه وفهارس المجموعات التي أثرى بها علم المصريات . ولد جورج لوجران في باريس في الرابع من أكتوبر عام 1865، ولم يكن هناك ما يشير إلى دخوله عالم الاستشراق يوماً ما، فوالده كان عامل طباعة، وفي سن الثالثة عشرة ولتميزه في الرسم عمل لوجران في مصنع لورق الحائط ، وفي عام 1883 انضم إلى مدرسة الفنون الجميلة من خلال الرسام جيروم، الذي استضافه في مرسمه الخاص، مما مكنه من اكتساب ثقافة أدبية وتاريخية واسعة، ومن خلاله استطاع اكتشاف مصر، التي كان قد انبهر بكتاباتها الهيروغليفية أثناء زيارته للجناح المصري بمتحف اللوفر، حيث سبق لجيروم زيارة مصر أثناء حكم نابليون لجمع الرسوم والصور اللازمة للأعمال الإستشراقية. عاش لوجران تحيط به علوم الآثار والعمارة الفرعونية القديمة بفضل تعاليم أساتذة المصريات أمثال: هوزي، بواتيية وشوازي، وعندما زاد عشقه لمصر واظب على دروس مدرسة اللوفر لتعلم كيفية قراءة الهيروغليفية. وظهرت براعة لوجران في رسالة قام بها في مدرسة اللوفر، كان نتاجها نسخة طبق الأصل لبردية كبيرة من برديات المتحف، وقد قام لوجران بنشر تلك النسخة في عام 1889، حيث كانت مثار إعجاب، للمهارة البادية في أداء النقوش والدقة في النقل الهجائي للحروف المتصلة. وتعلق لوجران باللغة الهيروغليفية تعلقاً كبيراً وانعكس حبه لفقهها، أثناء محاولاته حل المشكلات المتعلقة بالقراءة والقواعد والمفردات، فلم يكن علم المصريات قد تطور بالشكل الحالي. كما اهتم لوجران بالشخصيات التاريخية، وهي أحد أهم المجالات التي تألق ونشر فيه وثائق لا آخر لها، فكان يقوم بدراسة أسمائهم وسير حياتهم وصلات القرابة بينهم، وجاءت بداية دخول جورج لوجران ميدان العمل كعالم مصريات في عام 1891 حين أوكل إليه إميل شاسينا جزءاً من مهمة النسخ النهائي للرسوم التخطيطية الملحقة بالطبعة الأولى من مجلد نصوص معبد حورس، الذي صدر في باريس عام1897 . وفي الأول من ديسمبر عام 1892 وصل لوجران إلى القاهرة، حيث التقى جاك دي مورجان رئيس هيئة الآثار المصرية، الذي ضمه إلى فريق عمله، حيث تصادف وصوله مع بداية الحملة الأولى الخاصة ب«الكشف العام لآثار وحفريات مصر»، وخلال أيام من وصوله مصر توجه بصحبة عدد من علماء المصريات الفرنسيين إلى أسوان، ليبدأ رحلة الحفر والتنقيب عن الآثار المصرية المدفونة تحت الرمال .ومع نهاية عام 1903 بدأت ساحة فناء الكرنك تكشف للوجران عن أسرارها وما تخبئه من كنوز في باطن الأرض، فكان أول ما اكتشفه شاهدا تاريخيا ضخما ل«سيتي الأول»، ثاني فراعنة الأسرة التاسعة عشرة، تلاها اكتشاف صف من التماثيل، حتى أن سجل الحفائر ضم 519 قطعة مسلسلة منذ نهاية عام 1903 وحتى بداية موسم الفيضان في 1904، حيث كانت تتوقف عمليات الحفر والتنقيب . ومنذ ذلك الحين بدأ لوجران ينقل في يومياته الخاصة بالتنقيب النصوص الهيروغليفية للوثائق التي يسجلها ويعطي كل منها رقما، ثم خصص سجلا بالمتحف المصري لتسجيل الاكتشافات يدون بها حرف k الدال على كلمة karnak مضافاً إليه لفظ «خبيئة».ولأن لوجران كان مُلماً بفن التصوير، فقد أقام ستوديو تصوير في حديقة منزله الملحق بالفناء الغربي للمعبد، وكان يتم نقل التماثيل والشواهد يومياً إلى حديقة منزله ليقوم بالتقاط كليشهات لكل منها على حدة، وتمثل أرقاماً مسلسلة .وامتد الولع بالآثار المصرية إلى كل من كان يعمل في الكرنك مع جورج لوجران، حيث استولي هاجس «البحث عن تمثال» على فريق الحفر بالمعاول وحاملي القفف والريس المشرف عليهم ليس فقط من أجل المكافآت، التي كانوا يحصلون عليها، ولكن أيضاً لاحترامهم الشديد للوجران، وتقديرهم لحماسته وللحب الذي كان يكنه لهؤلاء الرجال وحرصه علي حمايتهم من أخطار قد لا يفطنون لها. وفي عام 1908 حصل لوجران على وسام الشرف من مصر، وحتى عام 1915 لم يترك مدينة الأقصر إلا في فترة الصيف لتوقف عمليات التنقيب بسبب الفيضان، ثم تولى بعد ذلك منصب كبير مفتشي الآثار الفرعونية في صعيد مصر، حيث أصبح مسؤولا عن آثار تقع في مساحة 300 كيلومتر. وفي عامي 1916 و1917 وظف لوجران كل إمكانياته لحماية معبد الأقصر من أخطار الفيضان، فسعى لبناء سد على طول رصيف الكورنيش، وهو ما كان سبباًَ في الكشف عن آخر اكتشافاته، وهو بقايا آثار شيدت في العصر الروماني لتكون مقر حكم الإقليم الجنوبي . وفي أغسطس 1917 تجاوزت مياه الفيضان السد وهددت بتدمير مساحة معبد الأقصر، فما كان من لوجران، رغم سوء حالته الصحية حينذاك، إلا أنه ظل أياما متتالية عرضة للحرارة الشديدة أثناء إشرافه على تنفيذ الإجراءات اللازمة لحماية وتأمين المعبد، وبعد ظهر الثاني والعشرين من شهر أغسطس 1917 لفظ لوجران أنفاسه الأخيرة في منزله بالكرنك، إلا أنه لم يدفن بجوار ساحة الكرنك أو معبد آمون رع، الذي كان سبباً في الكشف عن أسرارهما وتعريف العالم بهما، فما زال منذ وفاته يرقد في المقبرة الكاثوليكية الرومانية بالقاهرة.