جاء تشكيل حكومة «نوري المالكي« قبل 15 شهرًا في توقيت بالغ الحساسية، لجهة تدهور الوضع العام في العراق على جميع المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية؛ حيث شكل ذلك الوضع بمستوياته المختلفة تحديًا خطرًا لهذه الحكومة كان عليها مواجهته والتعامل معه في ظل ضغوط شتى مورست عليها (أمريكية وداخلية وإقليمية)، وزاد على ذلك تحديات جديدة طرأت على الساحة في ظل الظروف التي تشهدها البلاد وتلك التي تواجه الحكومة نفسها، وتتمثل في الانشقاقات والانسحابات التي تعانيها وتهدد بانهيارها، وأمام هذه الصورة من الصعوبة بمكان تقييم أداء هذه الحكومة، غير أن هذا لا يمنع من إلقاء الضوء على تلك التحديات ومحاولة عمل مقاربة لجوانب القصور في الأداء. بداية.. مر تشكيل حكومة «المالكي« بعملية مخاض عسيرة؛ إذ جاء بعد الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 15 ديسمبر 2005، والتي فاز فيها «الائتلاف العراقي الموحد«، ب130 مقعدًا من أصل 275 مقعدًا هي إجمالي مقاعد البرلمان. ومع أن الطريق كان ممهدًا أمام «الائتلاف الموحد« لتشكيل الحكومة، إلا أنه نشب خلاف داخله على تسمية الشخص المكلف بتشكيلها، خاصة أن اسم «ابراهيم الجعفري« كان مطروحا بقوة، باعتباره رئيسًا ل «حزب الدعوة«، الفصيل الأكبر داخل «الائتلاف«، إلا أن ترشيحه قوبل برفض بعض القوى السياسية الشيعية المعتدلة، لفشله في رئاسة الحكومة الانتقالية، فيما كان الخيار الأمريكي منصبا على «عادل عبدالمهدي«، أحد أعضاء «المجلس الأعلى الإسلامي« (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية آنذاك).. وبعد موجة من الصراع والجدل استقر الاختيار على «نوري المالكي« كحل وسط، باعتباره قياديًا في «حزب الدعوة«، وفي الوقت نفسه عنصر توازن بين أقطاب «الائتلاف« الشيعي. وبالفعل تم تشكيل الحكومة في مايو ..2006 ومثلها مثل سابقتيها قامت على مبدأ المحاصصة بين المجموعات الدينية والمذهبية والقومية الكبرى مع تطعيمها بعناصر من كتل قومية ودينية وسياسية صغيرة أخرى، من دون المساس بجوهر نسب التوزيع المذهبي والعرقي.. وهكذا تم توزيع مقاعد الحكومة ال34 على ست كتل مشاركة في البرلمان وفق صيغة قامت، من جهة، على أساس الاستحقاق الانتخابي، ومن جهة أخرى، على إشراك أكبر عدد ممكن من المكونات المتعددة المنضوية داخل العملية السياسية. غير أن النجاح في تشكيل الحكومة لم يكن يعني نهاية المطاف في بلد مازالت تمزقه الصراعات وتحوم في سمائه نذر حرب أهلية؛ حيث واجهت هذه الحكومة العديد من التحديات والمهمات؛ فعلى المستوى الأمني، كان عليها مواجهة العنف الطائفي الذي تصاعد بعد تفجير مرقدي الإمامين العسكريين بسامراء في فبراير 2006، علاوة على الوفاء بالتزام حل الميليشيات وأي قوى عسكرية تعمل خارج النطاق الرسمي للدولة أو لا تأتمر بأمرها، وأيضًا تحدي توحيد القوات المسلحة وقوات الأمن تحت راية وطنية واحدة بعيدًا عن الأطر المذهبية والعرقية التي قامت عليها. أما على المستوى السياسي، فكان التحدي الأول هو العمل على استمرار الحكومة وتمتين ركائزها بما يمنع انهيارها في أي لحظة، أما التحدي الثاني فكان التوصل إلى أرضية مشتركة في التعديل الدستوري ترضي السنة من دون المساس بما يعتبره الشيعة والأكراد من الثوابت التي تم تقنينها في الوثيقة الدستورية. في حين كان التحدي الثالث متمثلاً في بناء مؤسسات وطنية تتماثل مع الصيغة الدستورية في اقتسام السلطة والثروة، التي جرت على أساسها العملية السياسية. وعلى المستوى الاقتصادي، كان التحدي الرئيسي هو إعادة بناء اقتصاد دمرته الحروب والعقوبات، علاوة على إعادة إعمار البلاد وتحسين الوضع المعيشي للشعب البالغ تعداده 26 مليون نسمة، ويعيش أربعة ملايين منهم في فقر مدقع، حسبما أظهرت دراسة للأمم المتحدة. وفي ضوء تلك التحديات، طرح «المالكي« عند توليه السلطة برنامجًا يمثل الأسس والمبادئ التي ستلتزم بها حكومته؛ إذ جاء مركزًا في محاربة الإرهاب ونبذ العنف والعمل على تنفيذ خطة ذات محاور أمنية واقتصادية وسياسية واجتماعية تهدف إلى سيطرة الدولة على السلاح وإنهاء دور الميليشيات وإيقاف عمليات التهجير القسري وإعادة المهجرين لمناطقهم، علاوة على إطلاق مبادرة للمصالحة الوطنية من أجل معالجة الانقسامات بين الفرقاء العراقيين، والعمل على صيانة سيادة البلاد وتعزيز استقلالها ووحدتها وتنشيط عملية إعادة الإعمار، إضافة إلى تنفيذ المادة رقم (140) من الدستور، بشأن وضع مدينة «كركوك« وغيرها من المناطق المتنازع عليها. وبالنظر إلى بنود البرنامج المعلنة ومقارنتها بالوضع على أرض الواقع بعد عام وشهرين من تولي «لمالكي« المسؤولية، يتضح أن حكومته فشلت بدرجة كبيرة في تنفيذ هذا البرنامج، وكان هذا الفشل سببًا في الغضب الأمريكي وأيضًا في الانشقاقات والانسحابات التي تواجهها حكومته حاليًا.. ويمكن إبراز نقاط الضعف والقصور في أدائها على النحو التالي: - أولاً - الوضع الأمني: لا شك أنه يمثل محددًا رئيسيًا لتقييم أداء الحكومة؛ نظرًا للطبيعة الخاصة لهذا الوضع لجهة الفوضى الأمنية الشاملة التي يعيشها العراق، وانعكاس ذلك على النواحي كافة في الشأن الداخلي.. ومن ثم فقد حظي الملف الأمني باهتمام ملحوظ من جانبها، انطلاقا من أمرين:- الأول: ان النجاح في معالجته يعد شرطًا ضروريًا للنجاح في باقي الملفات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الإنسانية. والثاني: ان فشل الحكومتين السابقتين بقيادة «إياد علاوي« و«إبراهيم الجعفري« في معالجة ذلك الملف فرض العديد من التحديات عليها. ويمكن تقويم تعامل حكومة «المالكي« مع هذا الملف من خلال النقاط التالية: - 1 المعالجة الأمنية: حيث تحركت الحكومة في اتجاه أكثر تشددًا من سالفتيها، وتحديدًا فيما يتعلق بالمدن السنية، وخاصة في بغداد؛ حيث لجأ «المالكي« طوال الفترة السابقة، وبالتعاون مع قوات التحالف إلى تطبيق خطتين رئيسيتين، هما: - أ- خطة «معا إلى الأمام«، التي بدأت في منتصف يونيو 2006، وسعت إلى تحقيق هدفين مزدوجين أحدهما مكمل للآخر: - الأول: إنساني تستطيع من خلاله الحكومة تقديم الخدمات للمواطنين من خلال توفير الاستقرار من الناحية الأمنية. والثاني: عودة العائلات المهجرة إلى أماكن سكناها. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف انطوت الخطة على عدة إجراءات، كمشاركة 75 ألفًا من القوات العراقية والقوات المتعددة الجنسيات في تطبيقها، وزيادة الدوريات في بغداد ومنع المواطنين من حمل الأسلحة، إضافة إلى وضع عدد كبير من نقاط التفتيش في العاصمة وأطرافها، تشرف عليها قوات الشرطة والجيش، إضافة إلى القوات الأمريكية. ولكن.. هذه الخطة فشلت في تحقيق الأهداف المنوطة بها، مما دفع «المالكي« ومعه الإدارة الأمريكية إلى التفكير في تبني خطة أمنية أخرى. ب- خطة «فرض القانون«: بدأت في منتصف فبراير 2007، لتحقيق أهداف عدة، من بينها: بسط القانون وتثبيت سلطة الدولة في العاصمة، والقضاء على المظاهر المسلحة ومداهمة الإرهابيين في أوكارهم، والعمل على عودة المهجرين ومواجهة الميليشيات والجماعات المسلحة المسؤولة عن أعمال القتل والخطف في العاصمة، وبلورة شبه إجماع على حكومة «المالكي«.. وتقوم الخطة على محاولة تحقيق توافق شيعي سني، وذلك على اعتبار أنها تهدف إلى «فرض القانون« بالقوة على الخارجين عنه، سواء كانوا من الشيعة أو السنة، كما أنها محاولة للحد من العمليات الإرهابية التي يقوم بتنفيذها تنظيم «القاعدة«، إضافة إلى دعم التوجهات الأمريكيةالجديدة نحو الانسحاب، وهو ما أكده وزير الدفاع الأمريكي «روبرت جيتس«، يوم 14/1/2007؛ وعلاوة على هذا وذاك تسعى الخطة إلى مواجهة النفوذ والتغلغل الإيرانيين، وهو هدف أمريكي في الأساس. ومثل سابقتها، حملت هذه الخطة بين طياتها العديد من عوامل الإخفاق؛ إذ فشلت حتى الآن في تحقيق الاستقرار في بغداد؛ إذ مازالت أعمال العنف في العاصمة والمناطق المحيطة بها مستمرة. 2 جهود المصالحة الوطنية: على الرغم من الطابع المزدوج لهذه القضية باعتبارها خطوة سياسية ذات أبعاد أمنية، فإن التطرق إليها يعد محددًا مهمًا لقياس مدى نجاح الحكومة في سياستها الأمنية؛ إذ طرح «المالكي« في يونيو 2006 مبادرة للمصالحة تقوم على اعتماد الحوار الوطني الصادق في التعامل مع كل الرؤى والمواقف السياسية المخالفة لرؤى ومواقف الحكومة والقوى المشاركة في العملية السياسية، واتخاذ هذه القوى كافة موقفًا رافضًا وصريحًا ضد الإرهاب، إضافة إلى إصدار عفو عن المعتقلين الذين لم يتورطوا في جرائم وأعمال إرهابية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وأيضًا إعادة النظر في هيئة «اجتثاث البعث«، والعمل الجاد والسريع لبناء القوات المسلحة التي ستتولى إدارة أمن العراق للتمهيد لانسحاب القوات المتعددة الجنسيات، وكذلك البدء بحملة إعمار واسعة لكل مناطق العراق، والعمل على إعادة المهجرين إلى مناطقهم وتعويضهم. وقد أخفقت الحكومة في تفعيل وتلبية ما جاء في المبادرة؛ إذ لم تجد صدى واسعًا لدى التيارات العراقية، بل تزايدت في موازاتها دعوات الانفصال وتقسيم البلاد إلى أقاليم، وخاصة مع تبني «المالكي« سياسة «الإقصاء« الرامية إلى اجتثاث حزب «البعث« المنحل، وهو ما يتناقض مع مزاعم حكومته بشأن إجراء المصالحة الوطنية، علاوة على أنه اتبع منهجًا صارمًا إزاء التيارات السياسية الأخرى. وبصفة عامة كانت هناك ثلاث قضايا مثلت قيودًا حالت دون نجاح عملية المصالحة: القضية الأولى: تتعلق بالموقف من أعضاء حزب «البعث«، ولاسيما العسكريين منهم؛ فالأحزاب السنية تطالب بإعادة النظر في قانون «اجتثاث البعث« باعتباره قانونًا ظالمًا دفع بحوالي ثلاثة ملايين موظف مدني وعسكري إلى الشارع من دون مصدر رزق، ناهيك عن تعرضهم للظلم حين اعتبر القانون أن مجرد انتمائهم لحزب «البعث« دليل إدانة في حد ذاته ودليل تورط في جرائم حرب أو ارتكاب فظائع ضد الشعب العراقي. والأساس الذي يستند إليه رافضو القانون أنه لم يراع طبيعة النظام السابق الشمولية، التي كانت تفرض على النسبة الأعظم من الموظفين أن يكونوا أعضاء في الحزب من دون أن يكون لهم أي قدرة على التأثير في القرارات الصادرة عنه، وقد رأوا أن معالجة الأخطاء والمظالم الكبرى التي ارتكبت بواسطة هذا القانون من شأنها أن توفر مساحة مصالحة معقولة مع طائفة واسعة من العراقيين، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، الأمر الذي سيقوي العملية السياسية المتعثرة، كما سيساعد على احتواء نسبة كبيرة من مليات العنف. - القضية الثانية: وهي خاصة بالموقف من الميليشيات المسلحة لأجنحة في «الائتلاف العراقي الموحد« الحاكم، والمتهمة بالقيام بعمليات عنف وتطهير طائفي ضد السنة، ومن أبرزها «بدر« التي تعد الذراع المسلحة ل «المجلس الأعلى الإسلامي« وميليشيا «جيش المهدي« التابعة ل «مقتدى الصدر«. وفي السياق ثمة خياران أمام الحكومة يمكن التعامل من خلالهما مع قضية الميليشيات: - الأول: حل هذه الميليشيات تطبيقا لمبدأ أن لا سلاح إلا بيد الدولة وحدها. الثاني: دمجها في القوات النظامية (الجيش والشرطة) وفق ضوابط معينة. غير أن ثمة معضلات تواجه الحلين بصورة تجعلهما خيارين غاية في الصعوبة، فأسلوب الحل يتطلب قدرة من المؤسسات الأمنية المنضوية تحت سلطات الحكومة، وأيضًا قبولاً من الزعامات المسيطرة على هذه الميليشيات، والمؤكد أن هذه القدرة على الحسم غير متوافرة لأسباب جميعها سياسية، يعزز ذلك أن بقاء «المالكي« أو عدم بقائه مرهون أساسًا بتأييد الزعماء البارزين ل «الائتلاف الموحد« أو الذين يسيطرون على ميليشيات قوية. وتمتد المعضلة ذاتها إلى الفكرة الخاصة بدمج هذه الميليشيات في الأجهزة الأمنية الجاري إنشاؤها ودعمها؛ ففي حالة الدمج لأعداد كبيرة من عناصر مسلحة تتحرك وفق قناعات طائفية محضة، فهذا يعني احتمال سيادة النزعة الطائفية في عمل هذه الأجهزة، مما يبعدها عن أن تكون مؤسسات وطنية لكل العراقيين. - القضية الثالثة: وهي الموقف من القوات المتعددة الجنسيات وبرنامج خروجها، ومن ثم استعادة العراق سيادته، إذ إنه في الوقت الذي تتمسك فيه قوى سياسية وأخرى مقاومة بوضع جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية، وتعتبره شرطًا من شروط الاندماج في العملية السياسية فإن النخبة الحاكمة تطالب باستمرار هذه القوات لحماية النظام الجديد من أعدائه، والمساهمة في إعادة بناء القوات العراقية إلى الحد الذي يمكنها من القيام بأدوارها الأمنية الاعتيادية.. حتى الآن يبدو مطلب وضع جدول زمني للانسحاب غير قابل للتطبيق، الأمر الذي سيوفر سبباً وجيها لقوى المقاومة للابتعاد عن العملية السياسية، والاستمرار في عملياتها المسلحة، وبالتالي سيستمر التدهور في الوضع الأمني. 3 مؤشرات العنف: على الرغم من الخطط الأمنية وإجراءات المصالحة التي وضعتها حكومة «المالكي« - كما سبقت الإشارة - فإنها باءت جميعها بالفشل في ضمان إحلال الأمن؛ إذ مازال عدد القتلى العراقيين في تزايد، وهو ما أكده تقرير حقوق الإنسان الذي أصدرته بعثة الأممالمتحدة لمساعدة العراق والذي نشر في سبتمبر 2006؛ حيث أشار إلى أن عدد القتلى المدنيين بالعراق في تصاعد منذ وصول «المالكي« إلى الحكم، حيث زاد هذا العدد بشكل حاد ليقترب من سبعة آلاف قتيل خلال شهري يوليو وأغسطس 2006، إذ بلغ نحو 3590 قتيلاً و 3008 قتلى خلال هذين الشهرين على التوالي، مقارنة بعدد القتلى خلال شهري مايو (1658 قتيلاً) ويونيو (1897 قتيلاً) من العام نفسه، كما انتهى التقرير إلى أن القوات الحكومية تعاني انهيارًا عامًا وعدم التزام بالقانون والنظام. وفي اعتراف صريح بتصاعد أعمال العنف الطائفي بالعراق خلال الربع الأخير من عام 2006، أكد تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية ارتفاع عدد الهجمات الأسبوعية في هذا البلد إلى ما يزيد على ألف هجوم خلال الفترة المشار إليها، وارتفاع المعدل اليومي للضحايا إلى ما يزيد على 140 قتيلاً، غالبيتهم (نحو 100 شخص) من المدنيين. وتأكيدًا لفشل خطة «فرض القانون« في مهدها، أقرت إحصائية أعدتها مصادر رسمية عراقية بارتفاع عدد القتلى في البلاد خلال مارس 2007، أي بعد 45 يومًا فقط من بدئها، بحوالي 15.6%؛ حيث لقي 1869 مدنيًا مصرعهم خلال هذا الشهر مقابل 1646 في فبراير. هذا على صعيد القتلى العراقيين، أما فيما يتعلق بقتلى قوات التحالف بفعل أعمال العنف والمقاومة، فقد شهدت فترة حكومة «المالكي« منذ توليها حتى منتصف يونيو 2007 مقتل 1226جنديًا من بينهم 1163 أمريكيًا. ومما سبق، يتضح أن حكومة «المالكي« فشلت حتى الآن في التعاطي الإيجابي مع الملف الأمني، الأمر الذي ترتب عليه مزيد من التدهور على الأصعدة والمستويات كافة، مما يؤثر سلبًا في مستقبل العراق، ويجعله أسيرًا للهواجس الأمنية. ثانيًا - الوضع الاقتصادي: ويمكن الوقوف على أداء الحكومة الحالية في هذا الصدد من خلال قضيتين أساسيتين، هما:- 1 إشكالية الديون: حيث وصل إجمالي الديون الخارجية المستحقة على العراق عقب سقوط نظام «صدام« إلى ما يقرب من 125 مليار دولار، واستكمالاً لجهود حكومة «علاوي« التي نجحت في خفض ما يزيد على 35 مليار دولار، وحكومة «الجعفري« التي تمكنت هي الأخرى من خفض 28.1 مليار دولار، طالب «المالكي« الدول المعنية بإسقاط باقي الديون، مع التركيز - بصفة خاصة - في الدول العربية والخليجية.. وبالفعل تمكنت وزارة الخارجية من تشكيل لجنة رسمية تتولى التنسيق مع السعودية والكويت والإمارات لمعالجة القضايا الاقتصادية ومن بينها مسألة الديون، كما أطلقت الحكومة مبادرة عرفت باسم «العهد الدولي مع العراق«، وهي تهدف إلى إقامة شراكة بين العراق والمجتمع الدولي، وصولاً إلى استقرار هذا البلد، ومواصلة عملية النمو السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقد ترجمت تلك المبادرة بعقد مؤتمر في مدينة شرم الشيخ المصرية يوم 3 مايو 2007، أسفر عن توقيع وثيقة تضمنت تعهد الدول المشاركة بشطب 30 مليار دولار من الديون المستحقة على العراق. 2 - عمليات إعادة الإعمار: إذ يلاحظ أن هناك عددًا من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الحالية لبناء ما دمرته الحرب، وقد ركزت جهودها في هذا الشأن في التواصل مع العالم الخارجي، وعقد اللقاءات الثنائية لجمع المنح والتبرعات لصالح دعم جهود الإعمار. وقد تعهد «المالكي« في سبتمبر 2006 بأن تكون إعادة الإعمار على رأس أولويات حكومته من خلال حشد الجهود دوليًا ومحليًا، وكان أول تلك الجهود المشاركة في أول مؤتمر اقتصادي عربي استضافته القاهرة في الفترة من 6 إلى 8 سبتمبر 2006 لصالح جهود إعادة إعمار العراق وتنميته، تحت رعاية مجلس الوحدة الاقتصادية العربية. وكانت آخر الجهود التي بذلها «المالكي« هي عقد مؤتمر «العهد الدولي مع العراق« في شرم الشيخ، الذي أعلنت خلاله عدة دول (السعودية، الصين، بريطانيا) تعهدها بتقديم مساهمات في عملية إعادة الإعمار. وفي مقابل تلك الجهود، أكدت لجنة أمريكية للتدقيق في حسابات المشاريع التي تمولها واشنطن لإعادة بناء العراق أن قسمًا كبيرًا من تلك المشاريع التي تفوق قيمتها 37 مليار دولار مهدد بالفشل، وتوجهت بنقد شديد لحكومة «المالكي« التي قالت: إنها لم تقدم أي خطط لصيانة تلك المشاريع بعدما تسلمتها من الأمريكيين. وبصفة عامة.. فإن جهود حكومة المالكي سواء فيما يتعلق بخفض الديون أو الحصول على مساعدات دولية لإعادة الإعمار، اقتصرت على مجرد كونها تعهدات ووعودا فقط، من دون أن تتجاوز مرحلة التنفيذ الفعلي على أرض الواقع، كما فشلت في تحسين المستوى الاقتصادي للعراقيين وتقديم الخدمات الأساسية لهم؛ إذ أشارت التقديرات إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 70% بعد أشهر قليلة من تولي «المالكي«، بعد أن كان 32%، وسط توقعات المراقبين بتزايد هذا المعدل؛ نتيجة الافتقار - بشكل كبير - إلى الآليات المتبعة في ضبط الأسعار. وإذا أردنا الحديث عن مستقبل حكومة «المالكي« في ضوء التحديات والضغوط الراهنة فيمكن القول: إن هذه الحكومة علاوة على عجزها عن حل معضلة الوضع الأمني المتدهور، في ظل تزايد العنف الطائفي وفشلها في التعامل مع مشاكل البلاد الاقتصادية، تواجه عدة تحديات وضغوط راهنة - على المستويين الداخلي والخارجي - تهدد مستقبلها، وتجعلها في مهب الريح. فبالنسبة إلى التحديات والضغوط الداخلية، تأتي في مقدمتها إشكالية تعديل الدستور، إذ يقضي الدستور العراقي الدائم بأن تقدم لجنة نيابية مقترحاتها لتعديل الدستور إلى البرلمان خلال أربعة أشهر من بدء أعمالها في 15 نوفمبر 2006، ولكن بسبب عطلة البرلمان في يناير وفبراير الماضيين، كان من المفترض تقديم تلك التوصيات في 15 مايو 2007، إلا أن خلافًا بين الكتل السياسية الممثلة في مجلس النواب حول ثلاث قضايا جوهرية حال دون ذلك، مما دفع اللجنة إلى إحالة هذه القضايا إلى رؤساء الكتل والكيانات السياسية لحلها والبت فيها، وهي: 1- الفيدرالية: تلك التي يرفضها العرب السُنة الذين يسكنون وسط البلاد وغربها، خوفًا من أن تسمح للأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب - حيث توجد احتياطيات العراق النفطية - بالانفصال وتكوين دولتين مستقلتين، لذلك ترفض «جبهة التوافق« السنية الموافقة على إقرار الفيدرالية من دون إعطاء ضمانات بوحدة أراضي العراق وعدم تقسيمه مستقبلاً. 2- قانون النفط: حيث أقر مجلس الوزراء العراقي مسودة مشروع هذا القانون في 27/2/2007، إذ تضمن النص على أن تكون ملكية النفط والغاز عائدة لكل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات، وأن تطبيق القانون على العمليات النفطية يسري في جميع مناطق البلاد، وأن يقوم مجلس النواب بتشريع جميع القوانين الاتحادية للعمليات المرتبطة بقطاع النفط والغاز، وتصديقه على جميع الاتفاقات النفطية الدولية التي يبرمها العراق مع دول أخرى، إضافة لاعتبار مجلس الوزراء السلطة صاحبة الاختصاص لإقرار السياسة الاتحادية النفطية، والإشراف على تطبيق تلك السياسة، وتوليه الإشراف على إجمالي العمليات النفطية. ويدور الخلاف هنا حول عدم موافقة الأعضاء العرب السنة والشيعة في اللجنة على مطلب كردي للسماح للأقاليم بتوزيع عوائد النفط بدلاً من الحكومة المركزية؛ إذ تخشى تلك الطوائف من محاولة الأكراد لعب دور في عقد اتفاقات مع شركات أجنبية يستفيد منها إقليمهم على حساب بقية البلاد. 3- وضع مدينة كركوك: هناك خلاف حاد على المادة رقم (140) الخاصة بتطبيع الأوضاع في هذه المدينة بين الأكراد و«جبهة التوافق« السُنية التي اعتبرت المادة موجهة ضد العرب الذين يعيشون بالمدينة، وطالبت بإجراء تعديلات عليها، وهو ما رفضه الأكراد، معتبرين أن ذلك يمثل خرقاً للدستور. أما التحدي الداخلي الثاني الذي يواجه الحكومة حاليًا فيتمثل في تآكل «الائتلاف العراقي الموحد«، بعد انسحاب حزب الفضيلة (15 مقعدًا في البرلمان) في الأسبوع الأول من مارس 2007 من الائتلاف، وضاعف من خطورة تلك الخطوة على حكومة «المالكي« إعلان «الكتلة الصدرية« هي الأخرى في منتصف ابريل 2007 سحب وزرائها الستة من الحكومة، وتهديدها بالانسحاب من «الائتلاف«، مع التلميح بالتقارب مع «القائمة العراقية« بزعامة رئيس الوزراء الأسبق «إياد علاوي«، لتشكيل كتلة معارضة جديدة في البرلمان لتصحيح الأداء الحكومي وتقويمه. وبالنسبة إلى التحدي الداخلي الثالث الذي يواجه الحكومة فيتمثل في التحركات التي تقوم بها أيضًا كتلة «علاوي« مع «جبهة التوافق« السنية برئاسة «عدنان الدليمي«؛ لإيجاد تكتل جديد يضم الأكراد والمستقلين، ولا يقوم على أسس طائفية أو مذهبية.. وهو تحالف يمكن نجاحه، خاصة مع ظهور مؤشرات على تأييد الإدارة الأمريكية هذه الخطوة في إطار هدفها لتحجيم النفوذ الإيراني في العراق، ومما يعضد هذا الاحتمال إعلان جبهة التوافق مؤخرًا سحب وزرائها الستة من الحكومة، لتجاهل الحكومة بعض مطالبها، وكذا إعلان «إياد علاوي« احتمال انسحاب كتلته أيضا منها مما قد ينذر بانهيار الحكومة إلا أن التكتل الكردي سيكون هو العنصر الحاسم في إنجاح هذه الخطوة (له 53 مقعدا في البرلمان) وبالتالي فإن انسحابه سيطيح بلا شك بالحكومة، غير أن الموقف الكردي من هذا التحالف الجديد مازال غامضًا، ومرهونًا بالاتفاق والتشاور بين الفصائل الكردية نفسها. وإذا أردنا الحديث عن التحديات الخارجية فيمكن القول بوجود نوعين، هما: 1 الضغوط الأمريكية: إذ تراقب إدارة «جورج بوش« أداء الحكومة العراقية، وهي واقعة تحت وطأة ضغوط داخلية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، للتدخل من أجل إعادة تشكيل حكومة «المالكي«، أو الإطاحة بها واستبدال حكومة أخرى بها تكون أكثر فاعلية، وذلك بعد فشلها في تحقيق المصالحة الوطنية، وإنجاح العملية السياسية، والوفاء بجميع المطالب الأمريكية الأخرى. ومن المتوقع أن يكون شهر سبتمبر 2007 موعدًا فاصلاً في تحديد مسار علاقة واشنطن بحكومة المالكي، مع صدور تقرير قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال «ديفيد بيتريوس« الذي يتضمن تقييماً نهائياً للخطة الأمنية التي تنفذها قواته مع نظيرتها العراقية في بغداد، وإذا ما كانت قد أتت بنتائج إيجابية على الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق أم لا. ويشير محللون إلى أنه في حال الإقرار بفشل تلك الخطة، فلن يكون أمام الولاياتالمتحدة سوى خيار الانقلاب على حكومة «المالكي«، خاصة مع وجود مؤشرات عديدة تظهر استعدادًا من جانب واشنطن لتنفيذ هذا الخيار، بدءًا من المطالبة بحل الميليشيات المسلحة وفي مقدمتها «جيش المهدي«، مرورًا بإجراء اتصالات مع قادة عسكريين وبعض قيادات حزب «البعث«، وانتهاءً بتغيير موقفها من المقاومة العراقية التي كانت تعتبرها إرهابًا؛ حيث أعلن الجنرال «جورج كيسي«، القائد السابق للقوات الأمريكية في العراق، وجود «مقاومة شريفة«. وما يدعم هذا السيناريو أنه يحقق مزايا عديدة للإدارة الأمريكية، كإيقاف نزيف الدم والمال الأمريكيين، ومواجهة النفوذ الإيراني، وإعادة التوازن بمنطقة الخليج، علاوة على ضمان ولاء الحكومة العراقية التي ستأتي نتيجة الانقلاب للولايات المتحدة فقط، بدلاً من الولاء المزدوج لواشنطن وطهران، وعدم التأكد أي الولاءين سيسود في حالة حدوث مواجهة إيرانية - أمريكية. 2 عدم ثقة الدول العربية، والسنية منها على وجه الخصوص، بقدرات «المالكي« على قيادة حكومته نحو تحسين الأوضاع في العراق على الصعيدين السياسي والأمني، واتهام بعضها إياه بأنه طائفي. وفي محاولة من جانبه لتجاوز هذه الإشكالية، والحصول على دعم الدول العربية، قام «المالكي«« بجولة في ابريل الماضي شملت كلاً من: مصر والكويت وعمان، استطاع خلالها أن يحقق بعض النجاح في الحصول على دعم الدول الثلاث للعملية السياسية الجارية في بلاده، ولجهود حكومته لتحقيق المصالحة، وكذلك تلقيه إشارات إيجابية بالنسبة إلى عودة التمثيل الدبلوماسي المتبادل، وتسوية مشكلة الديون، إلا أن الجولة لم يكتمل لها النجاح، لأن هناك محطة مهمة جدا لم ينزل بها، وهي السعودية؛ حيث ألغيت الزيارة - بحسب مصدر سعودي - لأن الرياض تعتبر المالكي متقاعساً عن حماية مواطنيه السُنة من هجمات الميليشيات. وأخيرًا.. يبدو أن رئيس الوزراء العراقي بدأ يستشعر حرج موقف حكومته، وأنها تواجه خطر الانهيار، في وقت تعاني فيه انحسار التأييد الأمريكي، وضعف الدعم العربي.. ولذلك يسعى المالكي إلى ايجاد القشة التي تنقذ حكومته من الغرق، وربما كانت زيارته لإيران وتركيا، بحثًا عن التأييد والدعم من جانب أكبر جارين إقليميين للعراق، فهل سيتمكن المالكي من إنقاذ حكومته أم سيفشل فيكون ذلك أول سقوط لحكومة عراقية منتخبة؟.