لا شك أن اصطلاح «المواطنة» قد اشتُق من «الوطن»؛ وهي صفة الإنسان الذي يسكن وطناً محدداً ويتخذ منه سكناً. ومنذ البداية وضع مُنظّرو «المواطَنة» الأطر الأساسية لتحقق «المواطنة» داخل الوطن، وأهمها: سيادة الشعب، ومبدأ المساواة أمام القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ المشاركة في الحياة العامة. كما تشير الموسوعة البريطانية إلى أن «المواطنة» هي علاقة فرد ودولة، كما يحددها قانون تلك الدولة، وما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة، فالمواطنة: «مستوى من الحرية تصاحبها مسؤولية مناسبة». (د. عيسى الشماس، المجتمع المدني ..المواطنة والديموقراطية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2008 ، ص 38). لا يمكن أن تتحقق «المواطنة» في أي بقعة من العالم ما لم تُفعّل الأطر الأساسية المذكورة! إذ لا «مواطنة» من دون سيادة الشعب، ولا «مواطنة» من دون المساواة أمام القانون لجميع فئات المواطنين، دونما تفرقة متعلقة بالأصل أو الانتماء الفكري أو النشاط أو الوضع الاجتماعي أو اللون. ولا «مواطنة» من دون تحقق مبدأ تكافؤ الفرص وإتاحتها لجميع الناس في العيش في توافق ودونما رهن الوظائف أو المناصب أو «الهبات» حسب الظروف الاجتماعية أو المقاربات السياسية والحزبية والعائلية، أو حسب الدرجة المالية للشخص. ولا «مواطنة» في ظل الحكم الديكتاتوري، والانفراد بالقرار ومنع المواطنين من المشاركة في الحياة العامة، وسماع آرائهم أو آراء من يمثلونهم في المجالس المُنتخبة انتخاباً حراً نزيهاً. ولا يمكن تحقق «المواطنة» في مجتمع غير متمدن! ولا يمكن أن يكون نموذج «حكم الغاب» بكل صوره السوداء نموذجاً لبسط قيم التمدن. لأن مجتمع «الغاب» يحكمه الناب والمخلب، ولا يؤمن إلا ببقاء القوي وسطوته على جميع أفراد ذاك المجتمع. ومن هنا، فإن «المواطنة» تنتعش في المجتمع المتمدن الذي تقوده مؤسسات المجتمع المدني. وتتعاون هذه المؤسسات مع الدولة في تسيير أمور الناس في تجانس يُرضي الجميع. وللأسف، فإن الأدبيات الرسمية في العديد من دول العالم تركز على الوطن – والذي هو في الحقيقة مساحة من الأرض، أي جغرافيا صماء، لا يمكن أن تقترب من «المواطَنة»، والتي من دونها لا يمكن إطلاق اسم وطن على هذا المكان، الذي لا تتحقق فيه شروط «المواطنة»، ومن الناحية اللغوية، فإن مصطلح «المواطنة» يأتي على وزن «مُفاعلة» أي مشاركة؛ وهو مشاركة مجموعة من الناس في العيش على أرض محددة، وهم يشكلون المجتمع والدولة ولديهم عقد اجتماعي ينظم حياتهم. ويخلط البعض في أمر الجنسية، ذلك أن الجنسية تعني الانتماء إلى دولة، بينما «المواطنة» تعني حق الإنسان في المشاركة في إدارة شؤون المجتمع. وترتبط الجنسية في الأساس بواجبات المواطن تجاه الدولة، أما «المواطنة» فترتبط بتبيان حقوق المواطن. والوطن غير المتمدن، الذي لا يُؤَمّن للمواطنين حقوقهم لا يمكن اعتباره وطناً؟! كما أن المدنية ليست في البناء المادي للدولة أو الأرض، وليست في شق الطرق أو بناء الجسور أو إقامة علاقات دبلوماسية مع الخارج! إنها في تحقق مبادئ أساسية لحياة الناس، مثل: العدالة والمساواة والحرية ومشاركة الجميع في الشأن العام. وبذلك تسود المجتمع مجموعة من المبادئ التي يرضون عنها، وتحقق لهم سبل العيش الكريم. وتزول بذلك الأنانية والطبقية والاستحواذ والتدخل في القضاء والكراهية والقوانين القسرية، التي تحمي مصالح فئة معينة، بينما تجترئ مصالح الفئات الأخرى. وهذا ما فسّرهُ الفيلسوف «هيجل» عندما قال : «إذا ما تم خلط الدول بالمجتمع المدني، وإذا ما أعلن أن الغاية المحددة للدولة هي تأمين الملكية والحرية الشخصية وحمايتها، تصبح مصلحة الأفراد بحد ذاتها هي الغاية النهائية لترابطهم، فيترتب على ذلك أن تكون العضوية في الدولة شيئاً اختيارياً، ولكن علاقة الدولة بالفرد مختلفة عن هذا تماماً. فما دامت الدولة هي العقل الموضوعي، فإن الفرد – بصفته أحد أعضائها – يتمتع بالوجود الموضوعي، والفردية الأصيلة والحياة الأخلاقية».(جون إهرنبرغ ، المجتمع المدني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص 250-251 ). وللأسف، فإن العديد من الدول يتوجس من مؤسسات المجتمع المدني ، وبعضها يحدّ – عبر قوانين وضعية – من إنشائها وانتشارها. وتلك نظرة قاصرة تحارب القيم التي ذكرناها آنفاً لقيام علاقة طبيعية بين الدولة والمواطن، والأرض والمواطن، ذلك أن مؤسسات المجتمع المدني تكون متخصصة وتساعد الدولة في إدارة الشأن العام، عبر تفرغها وتخصصها لهذا الأمر، دون ضغوط أو أوامر عليا! كما أن هذه المؤسسات لها من حرية الاتصال بالمؤسسات الأخرى النظيرة لها، ما يجعلها تستفيد من خبراتها وتتبادل معها المعلومات والاقتراحات التي تفيد المجتمع. وهذا ما يُسهّل عملها ويوفر على الدولة الجهد والوقت والمال. أخيراً نقول: إن الوطن دون «مواطنة» يبقى مجرد أرض، لا تفاعل فيها ولا تعاون ولا مشاركة، وهذا يختلف جداً عن هدف وجود الإنسان على هذه الأرض، وهو الإعمار، الذي لا يتحقق إلا ضمن مبادئ القانون العادل الذي يضعه المجتمع، والمشاركة والحرية والمساواة. نقلا عن صحيفة الاتحاد