هنا على أرض النيل نشأ التاريخ كان ومازال عنواناً للحياة لم يكن نهر النيل مجرد نهر يجري في أرض مصر بل كان شريانًا يجري في دماء المصريين، تعلموا منه الرحمة والصفاء والخير وظل النهر رمزًا لمصر ولقلبها الصافي. كان النيل شاهدا على "خزعبلات" الحاكم بأمر الله وغزو الصليبين ومقتل شجرة الدر وهجوم هولاكو وهزيمته وما كان النيل لينسى أن تاريخه صنعه الفلاحون البسطاء على شاطئيه وكتبوا بالدماء والعرق تاريخ وطن كان هو جزءًا منه . آمن المصريون القدماء منذ استقرارهم على ضفاف النيل بأن نهر النيل هو مصدر الحياة وتجسيدا للنظام الكوني الذي يحيون فيه وأن منابعه هي حدود الكون المعروف في عالم الأحياء وفي العالم الآخر أيضًا. الإله حابي وقد وصل قدسيتهم له إلى أن اعتبروا النيل إلها أطلقوا عليه "حابي أو حعبي" بمعنى " الذى يفيض بالماء" وصوروه على هيئة رجل جسمه قوى وله صدر بارز وبطن ضخمة كرمز لإخصابه يحمل خيرات الأرض من الطعام والشراب إلى جانب رموز الحياة والرخاء وربطوا بينه وبين أساطير الخلق في عقائدهم فآمنوا بأنه كان يمثل المياه الأولى التي برزت منها الأرض المصرية فى بدء الخليقة. ولقد لاحظ المصريون فيضان النيل واعتبروه مؤشراً لبداية العام في التقويم المصري القديم حوالي منتصف شهر أغسطس حاليًا عندما كان النهر يبدأ في الارتفاع، ويميل لونه إلى الحمرة ليبلغ ذروته في سبتمبر ثم تبدأ المياه في الإنخفاض مع نهاية فصل الخريف لتصل إلى أدنى مستوياتها في مايو من كل عام،واهتم المصريون بتسجيل ارتفاعات الفيضان من خلال العديد من مقاييس النيل المنتشرة على امتداد مجراه واعتبروا أن ارتفاع النهر بمقدار 16 ذراعًا كان يمثل المستوى الأمثل للفيضان الذي يتم على أساسه تقدير ناتج المحاصيل والضرائب المستحقة على الأرض. ونظرا لحاجة المصريين الدائمة لتجديد الفيضان فقد أكدت الديانة المصرية القديمة ضرورة القيام بعدد من الطقوس كل عام قبيل وأثناء قدوم الفيضان أملاً فى أن تهب الآلهة أرض مصر فيضانًا وفيراً دونما انقطاع، وعلى الرغم من ندرة الدلائل على هذه الطقوس إلا أن أقدمها يعود لعصر الدولة الوسطى في القرن 20 ق.م. وهى المعروفة "بأناشيد النيل" التي تمتدح النهر وتخبرنا عن الوفاء بقربان كبير من الماشية والطيور له عندما فاض على وجه الأرض. نهر النيل بالقاهرة حفظت لنا سفوح جبل السلسة شمال أسوان ثلاث لوحات مسجلة بالخط الهيروغليفي تحتوي على ثلاثة مراسيم تعود لعصور الملوك سيتي الأول ورمسيس الثانى ومرنبتاح فى الفترة ما بين 1300 1225 ق.م. حيث تقر هذه المراسيم بأن تقام الاحتفالات للإله حعبي في السلسلة مرتين فى العام مع أعلى وأدنى ارتفاع للفيضان وأن يتم خلالها التقرب للنيل بالتقدمات التي تحتوي على قرابين مختلفة من الحيوانات والخضروات والزهور والفاكهة وكذلك عدد من التماثيل الصغيرة لإله النيل نفسه وأشارت هذه المراسيم أيضًا إلى "إلقاء كتاب حعبي" الذي كان عبارة عن لفافة من البردي تحتوي على قائمة من القرابين حيث يتم حرقها على مذبح أو تلقي في النهر واحتفظت لنا بردية "هاريس" حوالي 1150 ق.م. بقائمتين كبيرتين من القرابين لحعبي وكان أكثر ما يميزها هو قربان التماثيل التي أطلق عليها صور "حعبي" إله النيل. وتشير الدلائل التاريخية إلى أن المصريين كانوا يقومون بإلقاء بعض الدمى من الخشب كى يفيض النهر حتى القرن الثامن عشر فيحدثنا الجبرتي أنه فى يوم الاحتفال كان الوالي ينزل من القلعة مع الأمراء في مراكب مزينة من مصر القديمة إلى مقياس النيل بالروضة ويمكث هناك حتى يفي النيل 16 ذراعًا، حيث تقام الاحتفالات ويعطي الوالي الضربة الأولى بيده بمعول من فضة في المكان المحدد الذي تعد فيه الفتحة التي سيخرج منها الماء من السد الذي يحجزها عن قناة فم الخليج ليدخلها الماء شيئًا فشيئا. النيل يشتكي باحثًا عن "هاميس" "هاميس" تلك هي الأسطورة التي تم تجسيدها في السينما المصرية عام 1963 وهو فيلم "عروس النيل" من إخراج فطين عبد الوهاب، وبطولة رشدي أباظة ولبنى عبد العزيز التي جسدت دور هاميس أخر عروس نيل من الأسرة السادسة وهاميس اسم يعني الحب والسلام ويحكي الفيلم قصة حب هاميس عروس النيل التى عكف المصريون القدماء على مصالحة النيل بها أما اليوم فلم يجد النيل آذان صاغية لشكواه. مقياس النيل بمنطقة الروضة تلقى دمية فى النيل حسب الأساطير القديمة مع حفنة من النقود الذهبية والفضية في المياه المتدفقة، ويتبعها الحاضرون بإلقاء قطع النقود والأزهار وسط قرع الطبول وابتهاج الناس بقدوم النيل ووفائه في موعده.