اليهود الذين عانوا ويلات النازية، كما يزعمون، في فترة من فترات تاريخها الطويل والمستمر حتى الآن، يكتشفون اليوم أن من بينهم من يؤمن بها، وينتهج ممارساتها، ويرتكب اعتداءات تحت شعاراتها.. مفارقة غريبة هزت أركان المجتمع الإسرائيلي وبنيانه الداخلي من جهة، وأذهلت من جهة أخرى من يهتم بكوامن الصراع والخلل داخل هذا المجتمع. وكانت الشرطة الإسرائيلية قد أعلنت يوم 9/9/2007 اعتقال خلية مكونة من ثمانية أشخاص من مهاجري روسيا ودول أوروبا الشرقية، بتهمة الإقدام على سلسلة من الاعتداءات (15 هجومًا) طالت عددًا من اليهود المتدينين والمعابد اليهودية، في مشهد لم تعرفه دولة تقوم على أساس ديني، وترفض أي محاولات للتشكيك في ذلك، حيث تعد هذه هي المرة الأولى التي ينخرط فيها يهود في جرائم تُرتكب لدوافع الانتماء إلى اليهودية. وتبدو خطورة الحدث، إن لم يكن وراءه خلفيات أخرى، في أنه لم يُكشف النقاب عنه إلا بعد ثلاثة أسابيع من اعتقال المتورطين فيه، حيث تكتمت السلطات أولاً نبأ التحقيق فيه الذي بدأ قبل عام ونصف العام، وأخفت ثانيًا خبر توقيف العناصر المتورطة حتى تم رفع حظر النشر عن القضية مؤخرًا.. وبدا أن السبب وراء ذلك هو منع حدوث مزيد من القلق الذي يعتري جنبات المجتمع الإسرائيلي، سواء بسبب الخوف من صواريخ القسام وحزب الله، أو بسبب الخوف من إرهاصات الحرب المحتملة ضد سوريا وربما إيران، أو حتى بسبب الخوف من تنامي أشكال معاداة السامية التي تثير حنق اليهود في أنحاء العالم كافة.. فكيف بهم ومظاهر العداء للسامية تحدث بين ظهرانيهم ووسط بلادهم؟ وعلى الرغم من أن الحدث ارتكبه مراهقون لا يزيد عمر أكبرهم على ال 21 عامًا، فإن الأنباء أشارت إلى أنهم على صلة بتنظيمات نازية كبيرة في خارج إسرائيل، وخاصة في الولاياتالمتحدة، الأمر الذي زاد من القلق المثار بشأن هذه الخلية ومدى ارتباطها بخلايا أخرى نائمة.. لكن القلق الأكبر ارتبط بالبواعث التي دفعت البعض إلى الإيمان بمثل هذه الأفكار التي تهدد أمن المجتمع الداخلي وتماسكه.. كأن إسرائيل بحاجة إلى مصادر تهديد أخرى تضاف إلى قائمة المخاطر التي تؤرق مضجعها، ويأتي على رأسها: مأزق الانقسام الاجتماعي الذي تعيشه ووجودها في بيئة إقليمية ترفضها وتأبى تصرفاتها الاستفزازية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ يمكن استيعاب وجود أخطار أو أزمات تعانيها أي دولة وتحاول أن تتعامل معها في إطار أوضاعها الداخلية، بيد أن إسرائيل، وبخلاف العديد من دول العالم، عادة ما تحل مشاكلها الداخلية باللجوء إلى المغامرات الخارجية أو الهروب للأمام كسبيل وحيد لعلاج مأزقها، وهو الوضع الذي يجب أن يلفت انتباه الدول العربية في مجموعها، وليس فقط الدول التي تراها تهديدًا لها، إذ من المنتظر أن يحرك القبض على الخلية النازية، لما له من تداعيات داخلية خطيرة، القيادة السياسية الإسرائيلية للقيام بعمل متهور ما، إنْ آجلاً أو عاجلاً.. وهذا العمل قد يكون دمشق بالنظر إلى اختراق مقاتلاتها أجواءها، الذي كشف عن رغبة عسكرية إسرائيلية في تقييم مستوى الدفاعات السورية ونقاط تمركزها، وقدرة أجهزة راداراتها على التقاط إشارات طائراتها.. وقد يكون طهران بالنظر إلى التهديدات المتواصلة لها والاشتراك في ضربة أمريكية متوقعة.. وقد يكون «حماس« في وقت يزداد الخناق عليها بعد أن أُطلقت عدة صواريخ من قطاع غزة الذي تسيطر عليه وأصابت إحدى قواعدها العسكرية. وبداية، يجب القول إن الخلية الموقوفة فتحت الباب على مصراعيه للكشف عن الجوانب الخفية التي يحاول الإسرائيليون التعتيم عليها في مجتمعهم، والادعاء بأنها مظاهر للخلل توجد في أي مجتمع.. غير أن الناظر إلى هذه الجوانب يتأكد أن المجتمع الإسرائيلي يعاني مأزقا داخليا يفسر إلى حد ما أسباب انخراط الشباب الإسرائيلي في أعمال عنيفة ضد مجتمعهم الذي يرفضونه، ويؤكد ذلك عدة أمور: 1- تزايد عمليات العنف في أوساط شبابه، إلى درجة أنه يحتل المركز السابع بين الشباب الأكثر عنفًا في العالم؛ حيث ارتفع متوسط هذه الجرائم بنسبة 19% في عام 2004 مقارنة بعام 2003، وهي نفس النسبة تقريبًا في عامي 2005 و.2006 الغريب أن معظم العنف الذي تسبب فيه هؤلاء الشباب قام به مراهقون (3% ممن يبلغون 12 عامًا و6% يبلغون 13 عامًا و13% يبلغون 14 عامًا و19% يبلغون 15 عامًا و28% يبلغون 16 عامًا و13% يبلغون 17 عامًا)، وهي الملاحظة التي تنطبق على أعضاء الخلية النازية المعتقلين؛ حيث تتراوح أعمارهم ما بين أواخر سنوات المراهقة وبداية العشرينيات. 2- تصاعد معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق، التي وصلت في عام 2004 إلى جريمة قتل واحدة كل يومين وجريمة اغتصاب واحدة كل سبع ساعات وجريمة اعتداء واحدة كل 20 دقيقة.. المهم في هذا الشأن أن 10% من الضالعين في قضايا جنائية هم من طلاب المدارس.. ويبدو أن هذا الوضع وراء اعتبار وزير العدل الإسرائيلي للجريمة التي يرتكبها الشباب أنها تمثل تهديدًا استراتيجيًا للبلاد.. وهي المرة الأولى التي يُنظر للجريمة في أي دولة بهذا الشكل، خاصة أن من يقومون بها هم من الشباب الذين يعني تورطهم في ارتكاب الجرائم إمكانية تعوّدها والاستمرار فيها. 3- مأساوية الأوضاع التي يعيشها قطاع كبير من الشباب الإسرائيلي، والتي تدفع إلى ارتكاب الجريمة والتورط في أعمال العنف، ف 60% من الطلاب يقعون ضحايا للإهانة والمضايقات و90% يتحدثون عن تعرضهم للعنف في ساحات المدارس بشكل دائم، كما زادت نسبة الأطفال الفقراء لتصل إلى 30.8% من مجموع الأطفال في البلاد.. وكان تقرير لمؤسسة التأمين الإسرائيلية قد أكد أن 100 ألف مواطن نصفهم من الأطفال والشباب انضموا إلى شريحة الفقراء، ليصل عددهم إلى مليون و534 ألفًا، وهو ما يمثل 20% من مجموع سكان الدولة. ولا تعكس هذه المؤشرات كافة إلا جانبًا واحدًا من جوانب المأزق الصعب الذي يحياه المجتمع الإسرائيلي، إلا أن هناك جوانب أخرى ينبغي الإحاطة بها قبل بحث تداعيات القبض على أعضاء الخلية النازية، ومن بين هذه الجوانب، يشار إلى جانبين يعدان الأبرز في فهم ما يدور داخل الساحة الإسرائيلية: الأول:- يتعلق بدور الاتجاه الديني المتشدد في قيادة البلاد الذي ينحو بها إلى العنصرية والتعصب ناحية الغير، فممارسات الدولة تقدم تبريرًا لأبنائها للقيام بمثل ما تقوم به، حيث ممارسات سلطة الاحتلال التي تعتمد القوة المفرطة، وتشبع رجال الدين ومريديهم بأفكار إخلاء الدولة من الأغيار، سواء كانوا عربًا أو دروزًا أو حتى يهودًا، إذا ما كانوا عقبة في وجه تحقيق أهداف قضاياهم، وكذلك تشجيع المستوطنين وتوفير الحماية لهم وتسليحهم إن لزم الأمر في أي مواجهة مقبلة، بدعوى أنهم يشكلون خط دفاع خلفيا لجنود الجيش إذا ما قاموا بشن عملية عسكرية.. كل ذلك يدفع الأجيال الإسرائيلية الشابة إلى مزيد من التعصب وكره الآخرين حتى لو كانوا من أبناء المجتمع ذاته. الجانب الثاني: يتصل بالوضع الديمغرافي لليهود في دولتهم مقارنة بالعرب، ففي الوقت الذي اطمأن فيه الخبراء السياسيون الإسرائيليون مؤخرًا بشأن تساوي نسبة الولادة لدى النساء اليهوديات والعربيات في الدولة، حيث كانت هناك مخاوف من تزايد نسبة التكاثر الطبيعية لدى الفلسطينيات مقارنة بالإسرائيليات، التي دفعت البعض إلى تقديم اقتراحات للحكومة بالتخلص من الأحياء المأهولة بالسكان العرب والتنازل عنهم لصالح ما يسمى الدولة الفلسطينية المنتظرة، أي بتهجيرهم قسرًا، ثمة مخاوف رغم ذلك من تحول اليهود إلى أقلية، وقد أشار إلى هذا المعنى التقرير الإحصائي الإسرائيلي السنوي الذي صدر مؤخرًا، حيث ذكر أن السكان المسلمين داخل البلاد زاد تعدادهم بنسبة 16.1% في مقابل انخفاض تعداد السكان اليهود بنسبة 1.8%.. وكان تعداد السكان العرب قد وصل عام 2004 إلى نحو 1340200 بنسبة 19.5% بعد أن كان 1107400 عام 2000، في الوقت الذي قلت فيه نسبة اليهود من 77.8% عام 2000 إلى 76.2% عام .2004 يذكر أن هذه المخاوف كانت لها نماذجها التطبيقية الشاهدة في أغسطس 2005، وذلك إبان الحادث المعروف بقرية شفا عمرو بالناصرة، حيث أطلق يهودي متطرف لا يتعدى عمره هو الآخر 19 عامًا، الرصاص بشكل عشوائي على ركاب حافلة، فقتل 4 وأصاب 12 آخرين، قبل أن يتمكن الجمهور الغاضب من الإجهاز عليه وضربه حتى الموت، وقد أثارت الحادثة وقتها حتى هذه اللحظة الكثير من اللغط، تركز في معظمه في أسباب زيادة التعصب الديني والقومي في إسرائيل، التي تفسح المجال أمام نمو أجواء عنصرية في الشارع تستهدف اليهود قبل غيرهم، ويمكن أن تؤدي إلى نشوب حرب أهلية عرقية بين عرب ويهود الدولة.. وهذا الاحتمال الأخير أكدته الشواهد التالية: * الإجراءات التي اُتخذت إثر الحادث، ومازالت، ضد العناصر المتشددة دينيًا سواء في الجيش أو أجهزة الدولة المختلفة، ولاسيما منها المدارس الدينية ورجال الدين الذين يحرضون على العنف والكراهية، وهي إجراءات استهدفت بالأساس منع حدة الاستقطاب بين المتطرفين الدينيين، خاصة أن هذا الجناح يمثل قطاعًا كبيرًا في الدولة. * الاتهامات بالتقصير لأجهزة الأمن والاستخبارات الإسرائيلية، خاصة الشاباك أو جهاز الأمن الداخلي، وهي اتهامات تشير ضمنًا إلى تعمد هذه الأجهزة السكوت عن المتسبب في الحادث حتى ارتكابه له؛ إذ كان يُعرف عنه كجندي وعن غيره تشدده الديني ومستوى كراهيته للعرب والمسلمين، ورغم ذلك لم يتخذ أي إجراء ناحيته. * تردي الأوضاع الأمنية في المناطق العربية داخل إسرائيل، الذي أفقد المقيمين فيها من عرب 1948 إحساسهم بالمواطنة والأمان، وأنهم معرضون في كل لحظة لموجات من الهجوم العنصري، علمًا بأن هذه الأوضاع كشفت عن أن عناصر الجيش نفسه تستغل أسلحتها وخبراتها العسكرية في تنفيذ هجمات ضد عرب إسرائيل والمساعدة عليها.. بل إن الأجهزة المدنية نفسها متهمة هي الأخرى بعدم القيام بمسؤولياتها كجهة حيادية تمثل المواطنين كافة وتتعامل مع العرب منهم بشيء من الغلظة والقسوة. ومن بين المظاهر الدالة على ذلك، مثلما أشار مركز حقوقي: تفعيل قوانين والدخول في اتفاقات مع مؤسسات يهودية تخصص أموالها وتبرعاتها لضم الأراضي التابعة لعرب 1948 لليهود، تشريع القوانين التي تضمن مزيدًا من المزايا المالية والاجتماعية للملتحقين بالخدمة العسكرية.. خاصة أن عرب الدولة لا يلتحقون بالجيش الإسرائيلي، إصدار قوانين تسمح باستخدام وسائل عنيفة في التحقيقات مع المحتجزين في قضايا القيام بأعمال عدائية ضد الدولة، ولاسيما أن غالبية المدانين فيها من العرب. يذكر أن القضاء الإسرائيلي يتبع نظامًا ملتويًا هو الآخر يقضي بأنه إذا كان المتهم يهوديًا والضحية عربيًا لا تزيد احتمال الحكم بسجنه على 14%، أما إذا كان المتهم والضحية عربيين فيزيد احتمال السجن بنسبة 49%، وترتفع هذه النسبة إلى 77% عندما يكون المتهم عربيًا والضحية يهوديًا. ولماذا نذهب بعيدًا، وأمامنا قضية النائب العربي عزمي بشارة التي أثيرت في أبريل الماضي لتعبر عن الاتجاهات العنصرية النازية السائدة في الدولة؟ حيث تجدد الحديث وقتها عن الأقلية العربية كخطر ديمغرافي على إسرائيل.. وهو الخطر الذي يبرر فكرة الترحيل للحفاظ على هوية الدولة اليهودية.. مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الهوية هي ما تشكك فيه الخلية الموقوف أعضاؤها مؤخرًا. وإذا كنا نعتبر، مثلما أكد «محمد بركة« النائب العربي في الكنيست، أن الخلية النازية نتيجة طبيعية لعنصرية الدولة الإسرائيلية، ولاسيما تجاه عرب 1948 وعرب فلسطين، فإن تعديل قانون العودة يعد في نظر الكثير من الإسرائيليين، هو الحل الأمثل لمعالجة مشاكل الانقسام الاجتماعي الذي تعانيه دولة لاتزال لم تجب حتى الآن عن السؤال الذي يؤرقها حول: من هو اليهودي؟ دولة يتنازعها المتطرفون والعلمانيون من جهة والسياسيون والعسكريون من جهة أخرى.. والعرب واليهود من جهة أخيرة.. وهكذا حتى يخيل للمرء أنه لا يتحدث عن دولة، وإنما كيانات منعزلة تدفع كلا منها إلى أن يسلك المسلك الذي يرتضيه ويحقق له مصلحته.. ويبدو أن هذا هو السبب الحقيقي في بروز هذه الاتجاهات النازية التي تسعى بمنهجها القائم على التفوق العنصري إلى تفريغ الدولة من الآخرين الذين لا يؤيدون توجهاتها. ما هو تأثير الكشف إذًا عن هذه الخلية في احتمال قيام إسرائيل بشن مغامرة خارجية جديدة؟ بداية قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن حرب وشيكة، وذلك لأن إسرائيل تفكر مليًا قبل اتخاذ قرار بهذا المعنى، خاصة أنها ليس لديها الاستعداد لتكرار تجربة فشلها في حرب لبنان العام الماضي. لكن منْ قال إن إسرائيل لا تدخل في أي مواجهة إلا بعد أن تدرس أبعادها جيدًا؟ فهذا لا يصدق في كل الأحوال، بدليل حرب لبنان نفسها.. فرغم أنها اختبرت «المستنقع« في لبنان أكثر من مرة رغم ما جره عليها من انتكاسات من قبل، فإنها أصرت هي وقادتها العسكريون على الدخول في هذه المواجهة من دون الاستعداد الكافي وذلك بدعوى استعادة قوة بلادهم الرادعة، وهو ما لم تستطع أن تحققه. وفي ظل وضعها الداخلي المتأزم، يبدو أنها وتحت نفس الدعوى أيضًا، أي استعادة قوة ردعها، ستعيد المحاولة من جديد.. ولكن من يدري؟ فربما تكون سوريا وربما يكون لبنان.. غير أن المؤكد أنها ستكون «حماس«.