صرف النظر عن المشاكل الهيكلية للاقتصاد المصري وحاجته إلي رؤية تنموية استراتيجية للمدة الطويلة, فإن هذا الاقتصاد يعاني من مشاكل عاجلة تحتاج إلي حلول وسياسات للإنقاذ السريع. ويمكن تلخيص هذه الاستراتيجية المطلوبة من وجهة نظري في عدة اتجاهات, ألخصها فيما يلي: سياسة سكانية; فالاقتصاد المصري لا يتحمل أن يتضاعف كل ثلاثين سنة, وآن الأوان للنظر في المشكلة السكانية بمسئولية وحكمة. استراتيجية للتصنيع; فمشكلة الاقتصاد المصري هي في ضعف إنتاجية المصري, ولا علاج لهذا الضعف إلا بالتوسع في استخدام التكنولوجيا المعاصرة, ومجالها الأساسي في الصناعات التحويلية. ثورة في التعليم والتدريب; لا يمكن دخول العصر مع استمرار تدهور نظام التعليم والبحوث والتدريب وبما يجعلها قادرة علي خلق المواطن النافع. حرية وعدالة اجتماعية. لن يتحقق التقدم بمجرد تحقيق معدلات عالية للنمو وإنما لابد وان يصاحب ذلك شعور المواطن بالعدالة والمساواة والإنصاف. رؤية معاصرة للعالم المعاصر; فنحن نعيش في عالم جديد لا مجال فيه للانعزال والانغلاق علي الذات. فالانفتاح علي العالم أصبح ضرورة ولم يعد ترفا. وفيما يتعلق بالتعاون الإقليمي, فلابد أن تبذل كل الجهود لقيام اقتصاد عربي متكامل. وهذه الرؤية الاستراتيجية هي بطبيعتها رؤية طويلة الأجل, ولا يتوقع أن تحقق أهدافها في المدة القصيرة. إذا نظرنا إلي تجارب الدول التي حققت نهضة اقتصادية خلال القرن الأخير بعد استبعاد الدول الأوروبية التي بدأت الثورة الصناعية فأهم هذه الدول هي اليابان والإتحاد السوفيتي ودول جنوب شرق آسيا وأخيرا الصين ويلحق بها الهند والبرازيل. وقد نجحت هذه الدول في اختصار المسافة بينها وبين الدول الصناعية الأولي في أوروبا وامريكا وأصبحت تمثل الآن أهم المراكز الاقتصادية العالمية. وقد تميزت هذه الدول بأنها اعتنقت كلها سياسات للتصنيع وتوليد تكنولوجيات محلية وعالمية بنسبة استثمارات مرتفعة, وعرفت كلها وبلا استثناء حكومات وطنية قوية. وقد أخذت كلها وباستثناء الإتحاد السوفيتي بنظام اقتصاد السوق. كذلك فقد اعتمدت كل هذه الدول وأيضا باستثناء الاتحاد السوفيتي علي سياسة منفتحة علي العالم للتصدير وفتح الباب للاستثمار الأجنبي. ورغم أهمية وضرورة وجود رؤية مستقبلة واضحة للمستقبل, فإنها وحدها غير قادرة علي علاج الأزمة القائمة. فهناك أمور عاجلة لا تستطيع الانتظار. ومن هنا لا يكفي الاقتصار علي ما هو هام فهناك أيضا ما هو عاجل. والأمور العاجلة تنطوي علي شقين, أحدهما ضرورة عودة الأمن, والأكثر أهمية الشعور بالأمن, وكذا الحاجة إلي الاستقرار السياسي ووضوح الرؤية حول طبيعية وشكل النظام الاقتصادي والسياسي. وإذا توافرت هذه المتطلبات الأمنية والسياسية, فإن الشق الثاني هو أن الاقتصاد يواجه معضلة اقتصادية تتطلب معالجة سريعة. فيعاني الاقتصاد المصري من مشكلتين اقتصاديتين غير قابلتين للاستمرار, وهما عجز الموازنة وميزان المدفوعات من ناحية, والبطالة وخاصة بين الشباب من ناحية أخري. ووجه الصعوبة في هاتين المشكلتين لا يرجع فقط إلي أنهما يتطلبان علاجا سريعا للحيلولة دون انفجار الأوضاع القائمة, ولكن لأن متطلبات هذا العلاج متعارضة فيما بينها. فمشكلة الاختلال المالي, وخاصة عجز الموازنة يتطلب نوعا من السياسة التقشفية بضبط هذا العجز, في حين أن مشكلة البطالة تتطلب سياسة توسعية بزيادة الإنفاق. فعجز الموازنة بلغ حدا مقلقا وهو غير قابل للاستمرار, وقد وصل إلي نحو10% من الناتج الإجمالي وهو ما يمثل نحو ربع الموازنة. وهو أمر غير قابل للاستمرار. وفي نفس الوقت فإنه لا يمكن السكوت علي استمرار حالة البطالة خاصة بين الشباب وبالتالي فإن هناك حاجة إلي سياسة توسيعية ليس بالتوظيف في الحكومة, وإنما بخلق فرص عمل إنتاجية لاستيعاب البطالة بشكل تدريجي. وهكذا, فكأن الدولة مضطرة لاستخدام سياسات متعارضة, وإن كانت متكاملة, بين التقشف والتوسع, ساخن وبارد في نفس الوقت. فهل يمكن تحقيق ذلك؟ هذا هو السؤال. فعجز الموازنة وصل إلي حدود الخطورة, وحجم الدين المحلي جاوز التريليون وربع المليار جنيه, وهو يمول في أغلبه من البنوك المحلية أي من مدخرات المصريين, وأي عبث به سوف يهدد هذه المدخرات وربما استقرار وسلامة القطاع المصرفي من ورائه. فبدلا من أن تتجه هذه المدخرات لتمويل الاستثمارات, فإنها تستخدم لتغطية عجز الموازنة. وإذا نظرنا إلي نفقات الموازنة فإننا نجد أنها موزعة علي أربعة أقسام متقاربة, حيث يذهب الربع الأول إلي الأجور والمرتبات والثاني للاستثمار والصيانة لمرافق الدولة, والثالث للدعم والرابع لخدمة الدين العام. ورغم أن هناك حاجة إلي مزيد من العدالة في توزيع الأجور والمرتبات, فإن الرقم الإجمالي للأجور والمرتبات لا يسمح بتخفيضات مؤثرة بالنظر إلي أن الغالبية العظمي من عمال موظفي الحكومة يحصلون علي مرتبات متدنية. وأما بند الاستثمار الحكومي والصيانة, فإنه لا يمكن تخفيضه دون المساس بالخدمات العامة في مختلف المجالات. وهكذا, فإن أي معالجة لعجز الموازنة لابد وأن تتناول بندي الدعم وخدمة الدين العام. وأما بند فوائد خدمة الدين, فإنه ليس سببا للعجز, وإنما هو نتيجة له, ولا يمكن تحجيم هذا البند دون تخفيض العجز نفسه, الأمر الذي لا يبقي أمامنا سوي بند الدعم. فإعادة النظر في الدعم هي ضرورة وليس اختيارا. والبديل عن الاقتراض من البنوك لتمويل عجز الموازنة هو الاقتراض من البنك المركزي وطبع النقود وظهور التضخم, الذي سوف يعاني منه الجميع. وعلاج العجز لا يكون بترشيد الإنفاق فقط, وإنما بزيادة الإيرادات أيضا وفي مقدمتها الضرائب. وهو أمر لا يمكن إهماله, خاصة أن أخطر ما تتعرض له الضرائب ليس هو أسعارها, وإنما التهرب منها, والذي يشمل العديد من الطوائف في ضرائب الأرباح التجارية والصناعية والجمارك خاصة في ضرائب المهن الحرة. كذلك هناك قطاع هائل من الاقتصاد غير المنظم والذي لا يدفع ضرائب بالمرة. ومع ضرورة إعادة النظر في النظام الضريبي, فعلينا أن نتذكر أن زيادة الحصيلة منها سوف تتطلب فترة ليست بالقصيرة, ليس فقط لوضع التشريعات وإنما أيضا لإحكام محاربة التهرب الضريبي. وهي أمور قد تحتاج إلي وقت حتي تظهر نتائجها علي الموازنة, في حين أن العجز المالي الحالي عاجل لا يتحمل الانتظار. ومن هنا لابد من العمل في هذا المجال وعدم إهمال جانب الإيرادات, مع الاعتراف بأن تحقيق نتائج ملموسة قد يحتاج إلي وقت, والأكثر أهمية وإلحاحا هو ضرورة العمل علي جذب الاستثمارات وتشجيعها, وبالتالي جعل البيئة الضريبية منافسة لأوضاع الدول الأخري. وهكذا يتضح أن مجال المناورة أمام الحكومة محدود. وإذا كانت الحكومة مضطرة نظرا للأوضاع المالية المضطربة إلي بداية العمل علي ترشيد عجز الموازنة, فإنها لا تستطيع الاكتفاء بالسياسات المالية التقشفية, وعليها أن تعمل في نفس الوقت علي تحقيق سياسة استثمارية توسعية لاستيعاب العمالة الباطلة. وهنا يأتي دور القطاع الخاص في تشجيع الاستثمار والقيام بالإنفاق الاستثماري لزيادة فرص العمل. وبذلك تتوزع المسئوليات لإعادة الحيوية للاقتصاد المصري. والله أعلم. * نقلا عن صحيفة الاهرام