تعيش مصر الآن في أجواء المنافسة بين المرشحين للرئاسة. وكل منهم يقدم برنامجه للإصلاح مع وعود خلابة تجعل من مصر, إذا تحققت هذه الوعود, جنة الله في الأرض. فإذا استبعدنا دعوات المرشحين لتدعيم الديمقراطية واحترام الحريات وإرساء دولة القانون, فإن جميع المرشحين يعدون بتحقيق تطلعات الناس الاقتصادية إلي مجتمع الرفاهية والازدهار. وهو أمر محمود ويستجيب لاحتياجات الأفراد وآمالهم المشروعة. هناك وعود بتحسين مرتبات الموظفين ورفع المعاشات وزيادة الحد الأدني للأجور وفتح فرص العمل والقضاء علي البطالة, وتحسين التعليم وتوفير التأمين والرعاية الصحية للجميع, وزيادة الفرص أمام الشباب, وإعادة النظافة, وترميم الطرق.... والقائمة طويلة. ولا شك أن هذه الآمال مطلوبة ومرغوبة, ومن واجب أي حكومة أن تسعي إليها. وللأسف فإن حقائق الاقتصاد تضع قيودا شديدة علي مثل هذه التطلعات. وفي ظل هذه الحقائق فإن كل هذه الأمور لا تتحقق بمجرد الرغبة ولو كانت جامحة ما لم تتوافر الموارد المناسبة. فالدرس الأول في الاقتصاد, هو أن لا شيء يتحقق دون تكلفة.فالتمويل هو العنصر الرئيسي لتحقيق الرغبات, فالنتائج لا تتحقق بمجرد الأماني, وإنما بتوفير القدرة علي توفير الموارد اللازمة لتحقيق هذه الرغبات. وهذه الموارد قد تكون موارد بشرية أو مالية, وعادة ما يتطلب الوضع الأمرين معا.. وعندما نتحدث عن الموارد البشرية فليس المقصود هو أعداد البشر, وإنما المقصود هو العناصر البشرية المؤهلة بالخبرة والعلم والتدريب المناسب. وهذه الامور تحتاج بدورها إلي تمويل وإلي وقت.. ولا يتطلب اكتشاف هذه الحقيقة البديهية دراسة في الاقتصاد, فالحكمة الشعبية قد اكتشفتها منذ زمن سحيق. ولا ننسي المثل الشعبي القائل: يا جارية اطبخي.. فقالت: يا سيدي كلف! وعندما يبدأ الرئيس القادم عمله للبدء في تنفيذ برنامجه الانتخابي, فإن الخطوة الأولي له ستكون النظر في الموازنة العامة لمعرفة كيفية توفير الموارد المالية المناسبة. فماذا سوف يجد؟ هناك عجز قدر عند إعداد الموازنة الجارية بحوالي72% من النفقات وغالبا ما سيكون هذا العجز لحظة وصوله إلي سدة الحكم قد ارتفع إلي ما يقرب من03%. وعلي الرئيس المنتخب أن يقرر, حينذاك, هل يعمل علي لجم هذا العجز أم علي العكس العمل علي زيادته في الفترة القصيرة القادمة بأمل أن تنتعش الأحوال ثم يعود بعد ذلك من جديد لضبط الأمور؟ غالبا لن يبدأ بضبط الإنفاق, وإنما سوف يحاول إعادة ترتيب الأولويات وإعادة النظر في توزيع النفقات. فماذا سوف يجد؟ سوف يفاجأ بأن55% من النفقات توزع علي بندين هما تسديد فوائد الدين لعجز الموازنة( حوالي22%) وسداد أعباء الدعم(23%). وبذلك فأقل من نصف الموازنة يخصص لجميع خدمات الدولة الأخري في التعليم والصحة والطرق والأمن والقضاء والبنية الأساسية.. إلخ. ولذلك فأي زيادة للإنفاق لتحقيق برامج المرشح الرئاسي الموعودة لابد وأن تواجه بالاختيار بين زيادة العجز, وبالتالي زيادة المديونية وأعبائها علي السنوات القادمة, أو محاولة ترشيد أخطر بند في الموازنة وهو الدعم, والذي يعادل بشكل عام حجم عجز الموازنة. وهكذا فإن قضية الدعم, سوف تكون أول وأهم المشكلات التي سوف تواجه الرئيس الجديد. وقضية الدعم ليست ابنة اليوم, وهي مشكلة حقيقية لأنها بدأت لأسباب مشروعة ومعقولة, وهي حماية الطبقات الفقيرة والمحرومة من ارتفاع الأسعار, خاصة في المواد الاستهلاكية الأساسية( الغذاء والوقود), ولكنها تحولت, في العمل, إلي مصدر هائل للتجارة غير المشروعة والتهريب وتكوين الثروات وذلك باسم حماية المحرومين. ولذلك طالب عدد من الاقتصادين منذ مدة, وأنا منهم, بالتحول من الدعم العيني للسلع إلي الدعم النقدي للمحتاجين. ومنذ سنوات وتتحدث الحكومات عن الدعم النقدي, ولكنه لم يجد ذلك نجاحا في التنفيذ حتي الآن. فهل ينجح الرئيس القادم في تنفيذ هذا البرنامج للدعم النقدي للمحتاجين؟ أرجو ذلك. ولكن حتي في هذه الحالة, فإن تطبيق مثل هذا النظام الجديد لن يتم بين يوم وليلة. وهناك مشروع قائم لتوزيع أنابيب البوتاجاز بالكوبونات, وبالباقي يباع بأسعار قريبة من أسعار السوق. أرجو أن يكون هذا بداية للانتقال من نظام الدعم الحالي باهظ التكلفة وعديم الكفاءة إلي نظام أكثر كفاءة, وحينئذ يمكن إعادة النظر في أسعار الطاقة, وتوفير مبالغ كبيرة للموازنة. ولكن كل هذا يتطلب وقتا. فلا شيء يتم في اللحظة والتو. وحتي اذا وجدنا حلولا لمشكلة الدعم( وهي سوف تساعد علي علاج مشكلة العجز في الموازنة), فهناك محل لإعادة النظر في مختلف بنود الإنفاق التي تعرف بعض الإسراف أو الإنفاق غير المبرر. وهذا مصدر جديد لتوفير التمويل المطلوب لبرنامج الرئيس. ومع الاعتراف بأن هناك نسبة من الإسراف والتبذير في الإنفاق قد تجاوز01:51%, فإنه لا يمكن تحقيق هذه الوفورات فورا, إذ لابد من بعض الوقت للفرز بين الغث والسمين, فخمسون عاما من الفوضي في الادارة الحكومية والمحليات لا يمكن إصلاحها في أسابيع أو شهور. وخطورة التسرع في مثل هذا الأمر دون دراسة جادة, هو أن المستفيدين من هذه النفقات غير المجدية, وهم غالبا, في مراكز المسئولية, سوف يعرقلون هذه الاتجاهات بتقديم نصائح غير مفيدة. ولذلك فإن الأمر يحتاج الي عدم التسرع وقدر من الحكمة حتي لا تؤدي مثل هذه الاجراءات إلي إلغاء أو تقليص خدمات ضرورية للجمهور والإبقاء علي الأقل أهمية بمقولة التقشف ومنع الإسراف. كذلك هناك حاجة إلي إعادة النظر في هيكل المرتبات والأجور, حقا, لقد وافقت الحكومة الحالية علي وضع حد أقصي للدخول من المال العام, ولكن هذا لا يكفي, فماتزال هناك, مع وجود الحد الأقصي, أوضاع ظالمة تحتاج إلي التقويم. ومن هنا, فقد تضمنت مذكرة وزارة المالية للقضاء علي التفاوت في المرتبات الحكومية ضرورة الأخذ بمسارين, أحدهما قصير الأجل, ويتضمن الأخذ بمبدأ الشفافية وتحديد العلاقة بين الحدين الأدني والأقصي, والمسار الآخر طويل الأجل لإعادة النظر في هيكل المرتبات. وهكذا يتضح أن ترشيد النفقات وإن كان أمرا ضروريا وملحا فإنه يتطلب وقتا لتحقيق نتائج ملموسة, ولا يمكن أن تظهر مثل هذه النتائج في التو واللحظة. ولكن من قال إن السبيل الوحيد لتوفير التمويل هو من خلال ترشيد الإنفاق, أليس من الممكن زيادة موارد الموازنة بفرض ضرائب جديدة أو زيادة كفاءة التحصيل؟ هذا صحيح تماما, ولكنه بدوره يحتاج إلي وقت ولا يمكن تحقيق نتائج سريعة وعاجلة لتوفير مصادر تمويلية جديدة فورا. فتتراوح حصيلة الضرائب في مصر في حدود81% من الناتج الاجمالي, وتصل هذه النسبة في الدول الصناعية إلي ما يزيد علي03%, كما أن بعض الدول العربية الأخري, مثل المغرب أو الأردن, تجاوزت فيها نسبة الضرائب للناتج القومي ذلك بعدة نقاط, ومن الطبيعي أن ترتفع نسبة الضرائب في مصر. وليس هناك من شك في أنه يمكن زيادة حصيلة الضرائب في مصر بالارتفاع بكفاءة التحصيل وربما بفرض ضرائب جديدة أو رفع معدلات الضرائب القائمة. أما زيادة الحصيلة عن طريق زيادة كفاءة التحصيل, فأعتقد أن هذا يمكن أن يكون المصدر الرئيسي لزيادة حصيلة الضرائب. فهناك قطاع واسع, لا يكاد يتعامل مع الضرائب أصلا, وهو المعروف بالقطاع غير الرسمي. وتختلف التقديرات حول حجم هذا القطاع, وتتراوح التقديرات بأن حجمه يدور بين40 25% من الناتج الاجمالي. كذلك فإنه بالنسبة للقطاع الرسمي الخاضع للضرائب فإن هناك مؤشرات لوجود مظاهر متعددة من التهرب الضريبي وخاصة في مجالات ضرائب الأرباح التجارية والمهن الحرة. ورغم أن معظم الأنشطة الانتاجية تخضع للضرائب, فإن الاستغلال الزراعي يتمتع لأسباب تاريخية بإعفاءات ضريبية, كذلك فإن الضرائب علي الكسب الرأسمالي سواء في التصرف في العقارات أو الأصول المالية تكاد تكون غير موجودة في القانون المصري. ويمكن التفكير في الأخذ بنوع من هذه الضرائب ويتطلب هذا كله إعادة نظر ودراسة كاملة. ورغم أن الضرائب في مصر معتدلة بشكل عام بافتراض أنه ليس هناك تهرب من الضرائب فإن هناك مع ذلك محلا للنظر في الأخذ بنوع من الضرائب التصاعدية علي دخول الأشخاص الطبيعيين دون الأشخاص الاعتبارية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. ومع ذلك, فإنه من الضروري في هذه الحالة الحرص في كيفية صياغة مثل هذا القانون حتي لا يتعرض للطعن عليه بعدم الدستورية كما كان الشأن في الضريبة العامة علي الإيراد السابقة. وفيما يتعلق بالرسوم الجمركية, فإن المشكلة الكبري هنا هي في التهرب من هذه الرسوم بأشكال مختلفة ومتنوعة خاصة في نظام السماح المؤقت. ويتطلب هذا إعادة النظر في النظم القائمة وزيادة الاعتماد علي الأساليب الالكترونية للكشف عن البضائع. وعلي أي الأحوال, فيلاحظ أنه بالنسبة للرسوم الجمركية فإن مصر قد عقدت عدة اتفاقات للتجارة الحرة مع عدد من الدول بمنح مزايا جمركية متبادلة خاصة في شكل مناطق للتجارة الحرة. وفي مثل هذه الأحوال فإن ما تفقده الدولة من رسوم علي الواردات من هذه الدول تعوضه غالبا بما يتحقق من زيادة في الصادرات وبالعملات الأجنبية. وفيما يتعلق بمدي إمكانية زيادة فئات الرسوم الجمركية علي الواردات, فإن أكثر من07% من الواردات هي مواد غذائية أساسية( قمح, سكر, زيوت, لحوم....) أو منتجات بترولية أو خامات للصناعة أو سلع نصف مصنعة وقطع غيار وآلات مصانع. وبذلك فإن زيادة الرسوم الجمركية علي مثل هذه الواردات من شأنه أن يؤثر علي مستوي المعيشة برفع أسعار مواد رئيسية للاستهلاك أو بزيادة تكاليف الانتاج الصناعي. وحتي بالنسبة لما نستورده من سلع استهلاكية فإن أهم هذه الواردات هي الأدوية والمنسوجات, وربما لا يتجاوز حجم السلع الاستهلاكية المعمرة علي ما بين6 2% من حجم الواردات. وهكذا يتضح أن المرحلة الأولي للرئيس القادم لن تكون سهلة وميسرة في توفير الموارد المالية اللازمة هناك إمكانيات قطعا لزيادة هذه الموارد, ولكن هذا يتطلب وقتا لتعديل الأوضاع القانونية وتوفير الإمكانات التنفيذية. ولذلك, فإننا نأمل أن يحرص المرشحون, عند تقديم برامجهم الانتخابية, علي ألا يقتصر الأمر علي سرد الوعود لتحقيق التطلعات الشعبية, وإنما يجب أن يقدم المرشح تقديره للتكاليف المالية لكل من هذه الوعود, وكيفية تدبير الموارد المالية اللازمة لتحقيقها. أما سرد قائمة الانجازات الموعودة دون أي بيان عن موارد مالية لتحقيقها, فلن يكون أكثر من أضغاث أحلام. والموارد المالية لن تأتي من فراغ أو تظهر في التو واللحظة, بل لابد من الاعداد لها, ومن الوقت لتوفيرها. فما نحتاجه الآن هو الدعوة إلي العمل والاجتهاد, فالأماني وحدها لا تشبع من جوع. هذا وقت للعمل. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي