حالة المريض تسوء كل يوم والأطباء حوله عاجزون عن المواجهة إما جهلا أو عجزا أو مراوغة.. واهل المريض يتصارعون فيما بينهم بحثا عن الغنائم وهم لا يعلمون انه افلس وان ما بقي في الخزانة والحسابات والبنوك لا يكفي لسداد تكاليف العلاج.. كل يوم ينظر المريض حوله طالبا الرحمة ولكنه لا يفيق عادة إلا حين يطلع ضوء الشمس ويتسلل الى حجرته الباردة شئ من الدفء ويكتشف انهم جميعا غائبون ولا احد يجلس بجواره غير ممرضة عجوز هي آخر ما بقي له في رحلته الطويلة.. هذا هو حال مصر الأن انفض الجميع من حولها وهي تبحث عن صوت عاقل وقرار حكيم واطباء يخافون الله فيها.. والسؤال الأن هل نترك الأمور تمضي الى هذا المجهول وهل يمكن ان تبقي مصر بهذه الصورة الحزينة من الإرتباك والتفكك والفوضى وغياب المسئولية.. في تقديري ان انقاذ مصر في هذا الظرف التاريخي الصعب يحتاج الى رجال أوفياء أخر ما يفكرون فيه مصالحهم الشخصية واهدافهم المشروعة وغير المشروعة. ان مصر تحتاج الأن الى خطة عمل تقوم على ثلاثية لا ينبغي ان نختلف عليها وهي خطة إنقاذ اقتصادي.. وخطة إنقاذ امني وسلوكي.. وخطة مصالحة وطنية تجمع اشلاء الوطن الممزق.. في ظروف مصر الأن اقول ان رغيف الخبز اهم من صندوق الإنتخابات وكل احلامنا في الديمقراطية.. ولا يعني ذلك ان نتخلى عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان واحلام الثورة والثوار ولكن البطون الجائعة لن تذهب الى لجان الإنتخابات والشعب الذي يحترق كل يوم في نيران الحاجة لن يتوقف كثيرا عند الكلمات الرنانة والخطب النارية.. الموقف الإقتصادي في مصر الأن هو نقطة المواجهة الأولى وهذا يتطلب فتح صفحة جديدة لكل من يريد ان يعمل وينتج في هذا البلد إذا كانت هناك تجاوزات سابقة فهي امام القضاء وفي المحاكم ومن هنا لا بد ان يستعيد القضاء هيبته لأنها جزء اصيل من هيبة الدولة ولا يمكن ان نطلب من مستثمر اجنبي أو عربي أو حتى مصري ان يأتي بأمواله في ظل دولة لا تحترم قوانينها ومؤسسات لا تقدر مسئولياتها.. ان الموقف الإقتصادي يتطلب الأن ان نفتح الأبواب للجميع وان تعود مواكب العمل الى سيرتها في مجتمع منتج ومبدع وخلاق.. ان النزيف الذي يواجهه الإقتصاد المصري الأن لن يحتمل كثيرا.. نحن امام الاف المصانع التي توقفت ويجب ان تعمل وامام ملايين العمال الذين جلسوا في بيوتهم ويجب ان يعودوا الى اعمالهم وهناك حالة من الرعب يشعر بها كل صاحب مال ويجب ان نسترد ثقته واحساسه بالأمان.. نحن امام ميزانية فيها عجز اقترب من 200 مليار جنيه وامام ديون تجاوزت ترليون و400 مليار جنيه.. ولكننا امام اصول تتجاوز كل هذا بكثير وامام مدخرات للمصريين في البنوك المحلية اكثر من ترليون و100 مليار جنيه يمكن ان نضخ جزء كبيرا منها لتمويل المشروعات سواء كانت للقطاع الخاص أو مؤسسات الدولة.. ان هذا يعني انتاجا وعمالة وتصديرا ودخلا جديدا.. هناك مشروعات توقفت عن الإنتاج بسبب القروض واخرى بسبب الأمن وثالثة بسبب نقص التمويل وحين تتوافر هذه الأشياء سوف تعود هذه المصانع للانتاج مرة أخرى.. وسط هذا كله ينبغي ان تتوقف عشوائية القرارات وكأننا نعيد فرض الحراسات والتأميم واتهام الناس بالباطل إذا كان هناك شخص متهم فالقضاء له الف باب اما التهم الجزافية فهي اقرب طرق الخراب والإفلاس وبدلا من الخطب الرنانة والتصريحات العنترية من المسئولين يجب ان تتجه انظارهم الى عودة الإنتاج وتشغيل المصانع وفتح ابواب جديدة للاستثمار وطرح المشاكل مع المتضررين والعمل على مواجهتها.. الإقتصاد المصري لن يحتمل كثيرا ويجب انقاذه قبل فوات الأوان.. نأتي الى الجانب الثاني في خطة الإنقاذ الوطني وهي استعادة الأمن في الشارع المصري.. لا شك ان حالة الإنفلات التي يشهدها الشارع المصري قد وصلت بنا الى صورة من صور الفوضى لم تشهدها مصر من قبل.. ولا بديل امامنا غير ان يستعيد جهاز الشرطة دوره وهيبته.. ان ما تعرض له جهاز الشرطة منذ قيام الثورة وحتى الأن يمثل كارثة كبرى بكل المقاييس.. نحن امام جهاز تم تدميره في لحظة غليان غير مسبوقة ربما تحولت القضية الى نوع من انواع الإنتقام وإذا كان ذلك قد حدث ايام الثورة امام ضغوط معينة وتاريخ قديم من التجاوزات والأخطاء إلا اننا الأن وفي ظل إعادة بناء هذا الجهاز في حاجة الى ان يسترد عافيته هناك عشرات الكوارث التي تحدث في الشارع المصري الأن دون ان تشاهد فردا واحدا من رجال الشرطة ولا يعقل ان نترك المواطنين يسحلون بعضهم ورجال الشرطة ينظرون من بعيد.. في ظل حالة الإنفلات لا يمكن ان يطالب احد ايا كانت توجهاته بحياد الشرطة.. ان الحسم هو رد الفعل الطبيعي امام اي تجاوزات هنا ينبغي توفير جميع مطالب رجال الشرطة ابتداء بالتسليح وانتهاء بتوفير حياة كريمة لهم مهما كانت ظروف الميزانية ونقص الموارد لأن الأمن اولى بالإنفاق عليه وتوفير مطالبه امام مجالات اخرى بلا اهمية أو قيمة تستنزف موارد الدولة كل يوم. وفي هذا السياق لا بد من توفير جميع ضمانات الحماية لجهاز الشرطة لأنه الجهاز الوحيد القادر على فرض هيبة الدولة.. في احيان كثيرة تحاول ان تبحث عن الدولة المصرية بكل مؤسساتها ولا تجد منها شيئا.. في الشارع الناس يسحلون ويقتلون.. في الميادين اغتصاب النساء والتحرش بهن في مؤسسات الدولة لا احد يعمل.. بين المواطنين يسود منطق الميليشيات كما حدث في المقطم والإتحادية وفي ظل غياب الأمن تغيب الدولة وحين تسقط هيبة الدولة امام مواطنيها لا قيمة لقرار على الإطلاق.. لا نستطيع ان نفصل بين الإقتصاد والأمن لأن راس المال جبان بطبيعته وهو يستمد الثقة من اجهزة امن تحميه ولهذا فإن سقوط ثنائية المال والأمن يرتبط ارتباطا وثيقا بهيبة الدولة لأنها حين تغيب يكون من الصعب ان تستكمل الحياة دورتها في ظل مجتمع يبحث عن العدالة.. ان رجل الشرطة هو الذي يحمي اموال الناس ويحمي القوانين التي يحرسها القضاء ويطبق العدالة ويؤكد الحريات وإذا اختلت عناصر هذه المنظومة يختل المجتمع في كل ثوابته ومؤسساته. نأتي الى نقطة خطيرة وربما سبقت في اهميتها جميع العناصر الأخرى وهي قضية المصالحة الوطنية.. ان الشئ المؤكد ان انقسام الشعوب وتفككها هو اقرب الطرق الى الإنهيار.. وكانت سياسة الإستعمار الغربي دائما تقوم على نظرية فرق تسد.. والقرأن الكريم يدعو للاعتصام بحبل الله ونبذ الفرقة بين ابناء المجتمع الواحد.. وإذا اردت ان تقرأ مستقبل شعب من الشعوب والى اين يمضي افتح ملفات التوحد والتوافق فيه.. أو الإنقسام والتشرذم.. وبقدر ما جمعتنا ووحدتنا ثورة يناير بقدر ما تشرذمنا بعد ذلك ووصلت بنا الأحوال الى مانحن فيه ولا شك ان ملف المصالحة الوطنية قد تأخر كثيرا في جدول اعمال الرئيس محمد مرسي رغم ان هذا الملف وجد الحاحا شديدا من جميع التيارات والقوي السياسية لأنه اخطر عناصر ارتباك المشهد السياسي في مصر. كان البعض يرى ان ازمة مصر الطائفية هي المسلمين والأقباط وكان النظام السابق يعبث في هذه المنطقة كثيرا بإحراق كنيسة أو الإعتداء على عدد من الأشخاص والشئ الغريب ان نجد في سلطة القرار في ظل الإخوان المسلمين من يشعل المزيد من هذه الحرائق.. نحن امام مسلسل من الانقسامات في الشارع المصري منذ تولي الإخوان السلطة.. لم نتوقف عند المسلمين والأقباط ولكننا الأن امام قوى اخرى في قائمة التقسيمات.. نحن امام الإخوان والليبراليين وامام دولة مدنية واخرى دينية.. وامام تشريعات اسلامية سماوية واخرى غربية وضعية وامام الإخوان والسلفيين.. ثم امام الإخوان الوسطيين والأصليين.. وامام اكثر من فصيل سلفي ما بين احزاب متصارعة.. وامام جماعات اسلامية متنوعة.. ثم بعد ذلك نحن امام السلفيين والصوفية.. وعلى الجانب الأخر نحن امام مجموعة احزاب يجمعها كيان واحد سرعان ما تحول الى شظايا امام انقسامات اطاحت بمعظم رموزه.. هذه هي مصر الأن تيارات دينية متصارعة مع بعضها ومختلفة مع تيارات اخرى سواء مدنية أو دينية وفي ظل هذه الإنقسامات لا يمكن لنا ان نضع تصورا لمجتمع مستقر آمن يمكن ان يمضي للامام.. ومن هنا فإن تعثر كل برامج المصالحة الوطنية بين المصريين كان خطيئة كبرى سوف ندفع لها ثمنا باهظا.. لقد كان الفشل في حل هذه القضية وراء نتائج كثيرة تهدد امن مصر واستقرارها.. لا احد الأن يتحدث مع الأخر ولا يوجد فريق يتحاور مع فريق آخر.. والحقيقة ان ذلك كان تأكيدا لفشل الجميع سواء التيارات الدينية أو المدنية.. وإذا استمر وضع المريض على هذه الحالة ماذا ننتظر بعد ذلك.. موقف اقتصادي على ابواب كارثة ويحتاج الى معجزة يشارك فيها الجميع حتى لا نجد انفسنا امام تحديات نعجز كشعب عن مواجهتها.. موقف امني اقرب الى الإنفلات والفوضى ومعه تسقط كل يوم هيبة الدولة حتى وصلنا الى البحث عن الميليشيات في ظل ارتباك شديد في منظومة الأمن دورا وآداء وحضورا.. موقف وطني في غاية الخطورة امام انقسامات بين ابناء الشعب الواحد عجزت فيه جميع القوى السياسية عن إيجاد صيغة للحوار والإختلاف بما يدفع بالجميع الى شبح الحرب الأهلية.. هذه الجوانب الثلاثة تندرج تحتها توابع كثيرة على مستوى الشارع المصري امنا واستقرارا ومعيشة وعملا امام تحديات اكبر من كل التيارات واخطر من قدرة جميع القوى فإما ان ننقذ السفينة أو تغرق بنا جميعا. ..ويبقى الشعر عودوا إلي مصر ماء النيل يكفينا منذ ارتحلتم وحزن النهر يدمينا أين النخيل التي كانت تظللنا ويرتمي غصنها شوقا ويسقينا ؟ أين الطيور التي كانت تعانقنا وينتشي صوتها عشقا ويشجينا؟ أين الربوع التي ضمت مواجعنا وأرقت عينها سهدا لتحمينا ؟ أين المياه التي كانت تسامرنا كالخمر تسري فتشجينا أغانينا ؟ أين المواويل ؟.. كم كانت تشاطرنا حزن الليالي وفي دفء تواسينا أين الزمان الذي عشناه أغنية فعانق الدهر في ود أمانينا هل هانت الأرض أم هانت عزائمنا أم أصبح الحلم أكفانا تغطينا جئنا لليلي.. وقلنا إن في يدها سر الحياة فدست سمها فينا في حضن ليلي رأينا الموت يسكننا ما أتعس العمر.. كيف الموت يحيينا كل الجراح التي أدمت جوانحنا ومزقت شملنا كانت بأيدينا عودوا إلي مصر فالطوفان يتبعكم وصرخة الغدر نار في مآقينا منذ اتجهنا إلي الدولار نعبده ضاقت بنا الأرض واسودت ليالينا لن ينبت النفط أشجارا تظللنا ولن تصير حقول القار.. ياسمينا عودوا إلي مصر فالدولار ضيعنا إن شاء يضحكنا.. إن شاء يبكينا في رحلة العمر بعض النار يحرقنا وبعضها في ظلام العمر يهدينا يوما بنيتم من الأمجاد معجزة فكيف صار الزمان الخصب.. عنينا؟ في موكب المجد ماضينا يطاردنا مهما نجافيه يأبي أن يجافينا ركب الليالي مضي منا بلا عدد لم يبق منه سوي وهم يمنينا عار علينا إذا كانت سواعدنا قد مسها اليأس فلنقطع أيادينا يا عاشق الأرض كيف النيل تهجره ؟ لا شيء والله غير النيل يغنينا.. أعطاك عمرا جميلا عشت تذكره حتي أتي النفط بالدولار يغرينا عودوا إلي مصر.. غوصوا في شواطئها فالنيل أولي بنا نعطيه.. يعطينا فكسرة الخبز بالإخلاص تشبعنا وقطرة الماء بالإيمان تروينا عودوا إلي النيل عودوا كي نطهره إن نقتسم خبزه بالعدل.. يكفينا عودوا إلي مصر صدر الأم يعرفنا مهما هجرناه.. في شوق يلاقينا "قصيدة عودوا إلى مصر سنة 1997" نقلا عن جريدة الأهرام