نقلاً عن الاهرام 11/1/20087 حينما يزور أي رئيس أمريكي دول المنطقة, فهذا يعني اعترافا منه بقوة هذه الدول, ومكانتها وأن لها ثقلها السياسي والاقتصادي, وقدرتها الفريدة علي توجيه الأحداث في العالم. وإذا كانت هذه الزيارات ترتبط كذلك بقوة الولاياتالمتحدة, فإنها ترتبط أيضا بقدرات الزائر ورؤيته وسياساته وتاريخه, وفي هذه الزيارة ربما كانت مهمة الرئيس بوش في المنطقة هي الأصعب في مسلسل زيارات الرؤساء الأمريكيين منذ الحرب العالمية الثانية. فالأجواء التي تتم فيها تخيم عليها تداعيات مؤلمة وباهظة التكلفة لسياسات يتحمل بوش ومساعدوه في إدارته المسئولية الكاملة عنها. وربما يدرك الرئيس الأمريكي وفريق إدارته أنه يخطو اليوم علي أرض, تجسدت فيها أخطاؤه الكبري طوال السنوات التي قضاها في البيت الأبيض فلقد أشعل النيران في كل جوانبها, وأحدث نزيفا بشريا بين سكانها لم يزل ينزف, فهناك ضحايا كل يوم في العراق وفلسطين والسودان ولبنان وفي غيرها, ومازال يبشر بنزيف آخر أكبر وأخطر في منطقة الخليج بعد أن حنث بكل الوعود التي قطعها في مطلع عهده بقيام دولة فلسطينية, لشعب استمرت معاناته نحو ستين عاما, وفشل مشروع خريطة الطريق الذي طرحه, وقدم أسوا نموذج لإدارة كارثة بحجم تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر عام2001. وفتحت سياساته الباب واسعا أمام صراعات وحروب إقليمية بين الشعوب والأديان, وكرست المخاوف من النظام العالمي الذي قادته الولاياتالمتحدة, وقادت المنطقة إلي حروب عبثية وتدخلات غير مبررة في شئون المنطقة الداخلية. واقتحم خصوصيات الشعوب الثقافية والسياسية, فأحدث فيها اضطرابا غير مسبوق. ولقد غادر بوش بلاده, التي لم تنس له انتهاك الدستور والكذب المتعمد علي الشعب الأمريكي وتسببه في فقد الولاياتالمتحدة احتراما كبيرا لها في العالم, وفي مقتل أربعة آلاف جندي أمريكي, ليهبط أرضا تسكنها شعوب لن تتسامح مع خطاياه الماثلة في كل دولة من دول المنطقة. ومع كل ذلك فإننا حين نستقبل بوش فليس بوسعنا إلا أن ندرك حقيقة أنه رئيس الدولة الأقوي والأكبر في عالم اليوم, وهي حقيقة تتطلب منا البحث في ركام السياسة الأمريكية عن بارقة أمل في إمكان العمل معا من أجل السلام, وتحقيق الاستقرار وحماية مصالح الشعوب العربية, وفي المقدمة منها حقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة واستعادة الحقوق الضائعة للشعب العراقي. وربما كانت زيارة بوش للمنطقة في عامه الأخير قبل أن تطوي صفحته السياسية اعترافا بأخطائه الفادحة. وإذا لم يكن يدرك هذه الحقيقة فلابد أنه سوف يسمع ذلك كثيرا في الشرق الأوسط, خاصة في القاهرة حيث دأب الرئيس حسني مبارك علي مواجهة الأمريكيين بأخطائهم في المنطقة لسنوات كثيرة من حكم بوش. وكان صريحا في كل المواقف مع الإدارة الأمريكية وهي الصراحة التي تسببت, في بعض الأحيان, في تعكير صفو العلاقات المصرية الأمريكية. وربما يدرك الرئيس بوش اليوم كم كانت القاهرة راغبة في المواءمة بين المصالح الأمريكية والمصالح الإقليمية لشعوب المنطقة, باعتبار ذلك من أساسيات العمل السياسي. ولكن الإدارة الأمريكية أغرتها القوة فاندفعت وراء طموحات واهمة, وأصمت أذنيها عن أن تسمع آراء حكماء الشرق الأوسط. فعبر مراحل العلاقات المصرية الأمريكية لم يكن هناك اتفاق كامل, أو اختلاف كامل بشأن الكثير من القضايا الإقليمية, ولكن مع سياسات بوش طرأ اختلاف من نوع جديد هو اختلاف المنهج, خاصة حينما أعلن الرئيس الأمريكي عبارته المشهورة' من ليس معنا فهو ضدنا' وهو منهج يختزل الدنيا في موقفين اثنين فقط لاثالث لهما, وهو أمر يتنافي تماما مع أي فكر رشيد, ولايتفق مع التراث الإنساني في السياسة وفي غيرها. ولم تقبل مصر هذا المنهج جملة وتفصيلا, فليست هي التي تقبل بسياسات تراها خاطئة, إعمالا لذلك المنهج العقيم ولم تتردد في نقد السياسة الأمريكية في مواطن الخطأ, بالرغم من الفتور الذي جاء به هذا النقد ليصيب العلاقات بين البلدين. وربما قبلت دول أخري منهج إدارة بوش, ولكن مبارك لم يقبل به يوما حماية لدور مصر الإقليمي, ومكانتها واعتزازا بمواقفها المبنية علي مصلحة شعبها وشعوب المنطقة أيضا. وقد كانت وسيلة الإدارة الأمريكية في كل مرة تعلن فيها مصر موقفها المخالف للسياسة الأمريكية, هي تصريحات لمسئول أمريكي يمس فيها بكلمات بعض شئون مصر الداخلية, ومع ذلك لم تتراجع مصر عن منهجها المعلن والمخالف لنهج السياسة الأمريكية. .................................................................... لقد حذر الرئيس حسني مبارك الإدارة الأمريكية, مرات ومرات, من خطورة ذلك المنهج, وتأكيده أن الشعب الأمريكي لن يتحمل كثيرا التبعات التي يأتي بها منهج السياسة الأمريكية في مواجهة الإرهاب, وربما فرضت التطورات التي تلاحقت منذ الفشل في غزو العراق وتداعيات حرب الإرهاب علي علاقات الشرق والغرب شيئا من الرغبة في التراجع والتصحيح والعودة إلي جادة الصواب, وهو ما ظهر واضحا في الأشهر القليلة الماضية. ولعل المراجعات في الإدارة الأمريكية تطال الآن وضع القضية الفلسطينية من منطلق الرؤية المصرية التي تري هذه القضية مفتاح مستقبل التسوية والاستقرار في المنطقة بأسرها. لقد كان المحافظون الجدد يرون أن القضية الفلسطينية سوف تنتهي بإعادة ترتيب المنطقة بعد بناء العراق بالشكل الذي يريدونه, وظن الأمريكيون أن الطريق إلي إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي يمر بالعراق بدلا من الطريق الطبيعي الذي لابديل عنه, وهو المفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية, في إطار الشرعية الدولية, وصولا إلي حل سلمي عادل وحقيقي للقضية الفلسطينية. وربما كان الرئيس بوش في الفترة الأخيرة قد راجع موقفه من القضية الفلسطينية وأهميتها لأمن واستقرار المنطقة, وهو ما أكدته مصر مرارا للقيادة الأمريكية بعيدا عن آليات حل الصراع التي سوف تتبناها الولاياتالمتحدة, فلقد خرج بوش بدعوته إلي مؤتمر أنابوليس, وكان هذا مؤشرا للتغيير في الاتجاه الصحيح بغض النظر عما انتهي إليه المؤتمر من نتائج, لكن الطريق مازال طويلا ليس فقط بشأن الأوضاع الفلسطينية, وإنما بشأن كثير من القضايا المعلقة في ملف العلاقات المصرية الأمريكية, ومنها إيران والسودان والصومال وأفغانستان والعراق. إن التغير الذي طرأ علي الموقف الأمريكي مازال طفيفا, ولكنه في الاتجاه الصحيح, فالإدارة الأمريكية التي ظلت مصممة علي أن تلقي الأوامر ولاتسمع لأي صوت مهما يكن شأنه, تبدو الآن أكثر رغبة في أن تستمع وأن تحاور اعترافا بأخطاء المنهج السابق, وربما كانت زيارة الرئيس بوش للمنطقة فرصة فريدة لم تتح من قبل لأن يسمع ويراجع في هدوء أهمية الحوار مع حكماء المنطقة, وأن يسمع أصواتا غير تلك التي استمع إليها في مكتبه علي بعد آلاف الأميال من المنطقة, التي تستوعب الجزء الأكبر من تحركاته الخارجية, ربما فات الوقت علي الرئيس بوش وإدارته أن يستفيد كثيرا مما سوف يستمع إليه في المنطقة فقد دهمه الوقت وهو مازال يعاني أزمة السقوط في المستنقعات, ولكن من المهم أن يستخلص الرئيس من تجاربه دروسا ربما تفيد من يأتي بعده لتصحيح مسيرة الأخطاء التي وقعت فيها الولاياتالمتحدة, وربما كان غاية ما يحققه بوش في جولته بشأن القضية الفلسطينية, هو إعادة ثقة العرب بالولاياتالمتحدة كوسيط للسلام في المنطقة, بعد أن تردت تلك الثقة في ضوء الرغبة العربية الجادة في السلام, والمراوغة الإسرائيلية بتأييد أمريكي كامل. .................................................................... وفيما يتعلق بالموقف الأمريكي من إيران, والذي يبدو أنه يمثل النسبة الأكبر من أسباب زيارة بوش للمنطقة, حيث أعلن في كلمته الإذاعية الأسبوعية أن زيارته سيكون هدفها تشجيع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين واحتواء الطموحات العدوانية لإيران, فإن العرب جميعا لديهم مخاوف من النشاط النووي الإيراني, ولكن تلك المخاوف لن تدفعهم إلي حدود التطابق مع الموقف الأمريكي وسياساته نحو إيران, ولابد ان يدرك الرئيس الأمريكي هذه الحقيقة قبل أن يحاول ممارسة أي ضغوط في المنطقة فمن ناحية يبدو أن قدرته علي ممارسة الضغوط تتراجع كثيرا, حيث انطلق قطار انتخابات الرئاسة الأمريكية, فضلا عن أن الأخطاء المتعددة له في المنطقة تقوض نجاحاته في الحصول علي مايريد من العرب تجاه إيران, ومن ناحية أخري, فإن المخاوف العربية لها أسبابها ومبرراتها التي تختلف تماما عما يشعر به الأمريكيون والإسرائيليون علي السواء. .................................................................... وتأتي زيارة بوش لمصر والجدل مازال محتدما حول المعونة الأمريكية والشروط السياسية المرفوضة, التي تريد الولاياتالمتحدة ربطها بما تقدمه من معونات, فرضوخ الكونجرس لضغوط معروفة بتعليق جزء من المعونة في مقابل شروط لايليق أن توجه لدولة بحجم مصر ومكانتها, هو تعبير عن توجه يضر كثيرا بالسياسة الأمريكية في المنطقة بأسرها, ولابد أن بوش سوف يجد ملف المعونات الأمريكية مفتوحا في القاهرة, ولابد أنه سيقف علي حقيقة ما تحصل عليه مصر فعليا من المعونة الأمريكية, حتي يضع تلك المعونة في حجمها ووزنها الصحيح, ويعرف أنها أقل كثيرا من أن تتحول إلي ورقة للضغط علي الحكومة المصرية وأنها في نهاية الأمر ليست سوي لعبة سخيفة للمناورة بين الإدارة والكونجرس الأمريكي فيما يتعلق بالمواقف المصرية إقليميا, إذ لم يعد ما تبقي من المعونات الاقتصادية الأمريكية السنوية لمصر شيئا يماثل الاستخدام السياسي لها, تارة من أجل مواقف إقليمية, وتارة أخري من أجل تغيير أوضاع داخلية هي بالأساس مرهونة بإرادة المصريين وليس الأمريكيين. إن الإدارة الأمريكية لم تستوعب شيئا من دروس الماضي القريب والبعيد فيما يتعلق بما تقدمه من معونات, فلقد ناقش الكونجرس الأمريكي المعونة في إطار تدخلات غير مقبولة ومرفوضة شكلا وموضوعا في شئون مصرية خالصة, ليس لأمريكا ولا لغيرها أن تتطرق إليها, وقد تطرق النقاش أيضا لمواقف مصر من العراق والسودان وفلسطين, ويريد البعض في واشنطن أن ترتب مصر أولويات أمنها القومي في ضوء الرؤية والمصالح الأمريكية, وأن يخضع الأمن القومي المصري لرضاء واشنطن حتي لاتتوقف المعونة وتتوقف معها الضغوط من أجل ما يريده الأمريكيون, فأي شعب أو حكومة يمكن أن تقبل هذا العبث, وأي مصالح يمكن أن يحققها الأمريكيون جراء تلك اللعبة السخيفة الممجوجة؟!. .................................................................... إن مصر لن تقبل أن ترهن قرارها وإرادتها السياسية وترتيب أولويات أمنها القومي بأي معونة خارجية مهما يكن حجمها, فمنذ سنوات وكثيرون من المصريين يمارسون الضغط علي حكومتهم لكي تضع نهاية لمهزلة المعونة التي تتحول كل عام إلي سجال سياسي داخل أروقة الكونجرس والإدارة الأمريكية, ويجب أن يعرف الرئيس بوش أن مصر تقبل المعونة من باب التعاون والعمل المشترك, وأنها لايمكن أن تتحول إلي ورقة لممارسة أي إملاءات سياسية, سواء فيما يتعلق بالموقف المصري من القضايا الإقليمية, أو فيما يتصل برؤية المصريين وحكومتهم لتحقيق التنمية والتطور في جميع مجالات حياتهم وشئونهم الداخلية.