اصطلح المؤرخون العرب على اعتبار مقتل الخليفة الراشدي عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بداية الفتنة الكبرى، ولعل أشهرهم من المعاصرين طه حسين الذي جعل "الفتنة الكبرى" عنوان كتابه الذي قدم فيه رؤيته لما حدث، ويبدو أن تداعيات الفتنة الكبرى لا تزال قائمة في نفوس بعض العرب والمسلمين إلى اليوم، وقد حاولوا تجنبها بالقوة حيناً وبالتجاهل حيناً آخر، ولكن الحقيقة المرة تؤكد أن جمر هذه الفتنة يختفي تحت الرماد، فإذا انكشف قليلاً بدا لهيباً تستعر به النفوس، ومن ذلك يبرز الصراع المتجدد بين السنة والشيعة، ويجد من يوقده ويؤججه، ويلعب الإعلام اليوم أخطر دور في إذكائه وإضرامه. ولقد بات مريعاً أن يتم تقديم الثورة السورية وهي الحدث الأخطر في العالم اليوم، على أنها صراع بين أهل السنة والعلويين، وربما يساعد هذا التفسير في إبعاد الحدث عن دوائر السلطة ويوجه الأنظار بعيداً عن الأسباب المباشرة التي ولدت الانفجار، ولكنه يفتح مستقبل الصراع على ساحة أوسع، ويوجهه إلى مستقبل أخطر، فالصراع على السلطة يحسمه تغيير ممكن، ولكن الصراع على العقائد والانتماءات يدمر المجتمعات، وينذر بارتكاب جرائم جماعية لا ضابط لها، وهو صراع لا حسم له ولا منتصر فيه، بل هو يهدد بحلول كارثية، مثل التقسيم مثلاً. والعجيب أن يزج بعضهم بالمسيحية في أتون هذا الصراع، وهي بريئة من الأسباب والذرائع والدوافع، وربما ينفع الزج بها في خلط الأوراق، أو في استمالة الغرب المسيحي أو التلويح بالضغط عليه، ولكن هذا الزج كما هو افتعال التفسير الطائفي كله، يهدد مستقبل العلاقة بين مكونات المجتمع السوري، وربما كان وجود قوى مسيحية ناشطة في ضفتي الصراع يخفف من وطأة هذا الافتعال، ويكشف أن المسيحيين يتصرفون بوصفهم مواطنين، بينهم من يقف مع الثورة والمعارضة، وفيهم من يرى فيهما مؤامرة كونية كبرى على النظام. والخطر أن ينجر المجتمع السوري إلى التفسيرات المتسرعة الغاضبة، ومن المفجع أن نجد التعليقات المتنابذة على وسائل الإعلام التفاعلي تغرق في التحريض الطائفي، وتنجرف وراء إحالة الصراع من كونه صراعاً سياسياً إلى صراع بين المذاهب والطوائف، وهي التي عاشت قروناً على عقد اجتماعي توافقي، اتسع نطاقه وكبرت نوافذه حتى نسي المجتمع بأغلبيته أعرافه وحدوده، وكان من المحرج للسوريين أن يذكر أحد مذهبه أو طائفته. ففي سوريا نما الشعور القومي والوطني مبكراً إلى سوية عالية سمت فوق الإثنيات والأعراق والأديان، فامتزجت الطوائف كلها تحت مفهوم العروبة والمواطنة، ويبدو الشاهد فريداً أواخر الخمسينيات، حين ألح السوريون على الانضمام إلى مصر وقبول رئيس مصري لهم، بدافع قومي وحدوي واضح. ومهما تكن أسباب فشل التجربة، فإن أبرزها عملياً هو الإخفاق في تحقيق التوازن والتكافؤ بين الشريكين. وقد تكرر الأمر في مراحل لاحقة لم تبد فيها الأكثرية السنية اعتراضاً على صعود أي قيادي ينتمي إلى مذهب أو طائفة من غير الأكثرية، بل قبل جل المجتمع بعلمانية غير ملحدة أعلنها حزب "البعث"، وقالت إنها تحترم الأديان والعقائد، ولا تنكر كون الإسلام مصدراً رئيساً من مصادر التشريع، بل إن حزب "البعث" نفسه ترك علمانيته غائمة في شعار ملتبس، هو "الرسالة الخالدة" التي لم يوضح ماهيتها. وعلى رغم أنني لم أنتم إلى هذا الحزب، لكنني عشت في أجوائه طويلاً بحكم كونه الحزب الحاكم، وكنت سألت القيادة في لقاء عام قبل ثلاثين عاماً ونيف عن المقصود بالرسالة الخالدة فجاءتني تفسيرات غائمة ربما تصلح للعامة، وكانت المفارقة حين تقدمت في العمل الوظيفي أن يوجه السؤال إليّ مرات حين كنت أقدم برامج فكرية جماهيرية في التلفزيون، وقد فاجأني ذات يوم سؤال من أحد الشباب هو ذات الذي كنت أسأله "ما المقصود بالرسالة الخالدة؟ فقلت: بالنسبة لي لا أعرف رسالة لها سمة الخلود غير رسالة الإسلام"، ولم يعترض أحد من المسؤولين على إجابتي على رغم أنها لم تلق قبولاً ضمنياً، ربما لأن الاعتراض سيخلق إشكالية لا داعي لها، وربما لأن أي تفسير آخر سيدخل فيما يسمى السفسطة الكلامية التي لا تفضي إلى معنى محدد. وأحسب أن هذه التفسيرات الغائمة فتحت الباب لحضور الإسلام، أو جعلته موارباً حتى بات الخطاب الرسمي المعلن هو التلاحم بين العروبة والإسلام، والتأكيد على أنهما وجهان لعملة واحدة، وكانت الرؤى تتجه إلى حل هذا الصراع المفتعل بين القومية العربية وأممية الإسلام. ولقد أوجدت هذه الحالة نوعاً من التلاؤم بين مكونات المجتمع، فكبر حضور التدين في المجتمع، وكذلك نشطت بقوة الحركات والدعوات المناهضة والكارهة لحضور الإسلام ولو على صعيد شكلي. وهذا يعني في فهمي أن المذاهب والطوائف ليست عنصراً راهناً في مكونات ما يحدث الآن، على رغم وجود ضيق واستياء من إخفاق تجربة التشاركية المعلنة في تحقيق التوازن بين الشركاء، فقد فشل المعنيون في أجهزة الأمن والجيش في تحقيق توازن، ولم تكن التوازنات في الواجهة السياسية تقلل من شأن غيابها في مكامن القوة الفعلية. لقد انصبت مطالب المجتمع الغاضب على السلوك الأمني المستبد، وعلى احتكار السلطة لفريق واحد، وعلى تضخم النمو الطفيلي في الاقتصاد الوطني، وكان بالوسع معالجة ذلك دون زج الطائفية في القضية، وكان الخطر الأشد هو زج الجيش للقضاء على الاحتجاجات، وربما كان الدافع لزج الجيش منذ بداية الأحداث، تعبيراً عن ضعف الثقة بقدرة الأجهزة الأمنية على المعالجة، وحين أقحم الجيش كان طبيعياً أن تحدث الانشقاقات لأن كثيرين من الجنود والضباط لا يستطيعون توجيه رصاصهم ومدافعهم إلى بيوت أهلهم وإلى صدور أشقائهم. والآن صارت سوريا أو أوشكت أن تصير الأرض اليباب، محرقة القرن الحادي والعشرين، ولا يملك السوريون أية نافذة أمل في إيقاف هذا الشلال الدافق دماً هو على الضفتين دم سوري، وقد بات منظر القتلى وصور المجازر اليومية وتدمير المدن حدثاً يعتاد عليه المشاهدون، ولم تعد دعوات الحوار تجد من يقبلها، وبديلها مزيد من العنف والقتل في أفق مفتوح، وفصل الشتاء يقترب والبرد القارس في مخيمات اللاجئين، فضلاً عن المشردين في الداخل، وعن حالة العطالة في الاقتصاد، وعن حالة الرعب المريع التي يعيشها الناس، كل ذلك يستدعي يقظة ضمير إنساني، ويلقي بالمسؤولية على العالم كله. نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية