لا شكَّ أن إنتاج فيلم "براءة المسلمين" الذي أساءَ للرسول صلى الله عليه وسلم، هو خروجٌ على أخلاقيات الإنتاج الفني وعَبثٌ يُراد به خلقُ الفتن والضغائن بين الديانات السماوية دون مبرر. كما أنه يمسّ أعظمَ رمز قاد البشرية إلى الهداية بعد عهود من الظلام وعبادة الأصنام، كما أقام دولة الهدى، ونشرَ مفاهيمَ العدل والرحمة من بعده خلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم، حتى وصلت رسالة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها. ونحن كمسلمين لا نسمح بأي تشهير ضد أي دين حتى لو لم يكن سماوياً! كما نشجب أية إساءة للأنبياء والرسل والتطاول عليهم، لأنهم مُختارون لهداية الناس وتبليغهم رسائل من الخالق عز وجل. وكما لا نسمح بذلك للأديان الأخرى، فالواجب ألا يسمح أصحابُ هذه الأديان بما لا يرضونه منّا لدينهم. وفي نفس الوقت، فإننا ضد أن يتشنج المسلمون بالمغالاة في دفع ثمن إنتاج هذا الفيلم، واتهام الحكومة الأميركية أو مطالبتها بالاعتذار عما لحق بالمسلمين من إساءة جراء إنتاج ذاك الفيلم واستغلال الحادثة لأمور سياسية ثورية تُبعدنا على حقيقة الأمور، وتساهم في خلق الفوضى دون مبرر في العالم. مع الإقرار بأن مساحات الحرية في الولاياتالمتحدة قد سمحت في الماضي بأكثر من ذلك، فهذا ليس مبرراً لهبوط الفيلم إلى المستوى المستفز الذي ظهر في مقاطعه المنشورة. إن قتل السفير الأميركي في بنغازي وثلاثة من أعضاء السفارة، والاعتداء على سفارة الولاياتالمتحدة في صنعاء، ومحاصرة سفارتها أيضاً في القاهرة... كل ذلك لا يصبُّ في المساعي الإيجابية نحو حوار الأديان الذي تقوده بعض الدول الإسلامية منذ وقت. ولا يؤيد الجهود الإسلامية للتعريف بسماحة الإسلام ودعوته للسلام وقبوله للآخر، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر التي أودت بحياة آلاف الأبرياء دون مبرر. بل إن أعمال العنف تلك تلحق الأذى بالإسلام وتصّور المسلمين كمتعطشين للدماء، لا يقبلون الحوار ولا يعرفون غير العنف. لذلك فمن يقوم بتلك الأعمال يساهم في الهجوم على الإسلام وانتقاده وتحقيره، بل ويؤكد مزاعم الفيلم المذكور. نحن ندين ذلك الفيلم، وقد عبّرت معظم الدول العربية والإسلامية عن غضبها من إنتاجه، لاسيما أنه لا يملك أية قيمة فنية، سوى تحقير الآخر وتسفيه معتقداته، وليس ذلك من الفن في شيء. وكذلك عقلاء العالم أيضاً ليسوا مع إنتاج ذلك الفيلم، حيث أعربت الولاياتالمتحدة عن إدانتها لإنتاجه واعتبرته مداناً ومثيراً للاشمئزاز، كما جاء على لسان وزيرة الخارجية الأميركية. كما أدان البطريك ( الراعي) اللبناني الفيلم وقال: ندين بشدة الإساءة للإسلام ونبيه في الفيلم المخزي "براءة المسلمين". وقد أدانت مصر الفيلم على لسان الرئيس مرسي الذي قال: إن المقدسات الإسلامية والرسول صلى الله عليه وسلم خط أحمر بالنسبة لنا نحن المصريين والمسلمين جميعاً. وبينما تصاعد الغضب في الشارع الإسلامي ووصل حتى جاكرتا وكوالالمبور وطهران وإسلام آباد، حملت الصحف أيضاً عناوين تدين الولاياتالمتحدة، في ثورة غضب عاطفية، توشك أن تحول القضية من فعل قام به أفراد متعصبون وحاقدون على الإسلام، إلى قضية عداء بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي! لذلك فقد بدأ عقلاء الأمة يوجهون رسائل واضحة ومحددة حول ضرورة التعامل مع القضية تعاملاً إيجابياً وعقلانياً لا عاطفياً! لقد أعلنت المملكة العربية السعودية استنكارها قيام مجموعة (وصفتها بغير المسؤولة) في الولاياتالمتحدة بإنتاج الفيلم، مؤكدةً نبذها لجميع الأعمال التي تُسيء إلى الديانات ورموزها. كما دعت الهيئة العالمية للتعريف بالإسلام، التابعة لرابطة العالم الإسلامي (مقرها مكةالمكرمة) إلى مقاطعة الفيلم والكف عن تداوله، مؤكدةً أن تحميلَ بريءٍ مسؤوليةَ إساءةِ غيره أمرٌ لا يجوز تحت أي ظرف، داعيةً إلى ضرورة الحكمة والانضباط في ردود الأفعال، بعيداً عن التهور والتصرفات "غير المُقدرة" من حرق للسفارات وخلافه. أقول: إننا جميعاً نُدين الفيلم ومنتجيه، ونطالب بتقديمهم إلى المحاكمة حسب الأصول المعروفة، لكننا في الوقت ذاته ندعو المسلمين والمسيحيين في العالم كله إلى عدم الانجرار وراء أهداف الفيلم الدنيئة، أي تجنب السقوط في مستنقع العداء وتبادل الاتهامات، وعدم السماح بتغليب الشرّ على الخير، مما يوقع المجتمعات في حروب لا فائدة منها، خصوصاً في مصر التي تحتاج إلى الوحدة الوطنية، وأمامها مهام البناء وإزالة آثار الحكم السابق. وفي الوقت نفسه فإننا نُدين قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ونؤكد أن الاعتداء على السفارات أو إرهاب الأميركيين الأبرياء الذين لا علاقة لهم بالفيلم وزمرة منتجيه، ليس من ردود الأفعال الإيجابية، بل هو أمر لا يقره الإسلام. قد نختلف مع اليهود أو مع المسيحيين، وهذا من صيرورات الحياة، لكننا نحترم دياناتهم وأنبياءهم ولا يقترب إنتاجنا الفني والأدبي من مقدساتهم. وبالتالي فنحن نطالب أن يكون لنا نفس الحق في احترام مقدساتنا. ويجب أن تكون أدبياتنا كلها في صالح احترام تلك الديانات ورموزها والابتعاد عن المغالاة على أساس "لكم دينكم ولي دين". المطلوب الآن، ليس محاصرة السفارات وتعطيل الحياة في العواصم العربية والإسلامية بالمظاهرات والعبث العاطفي، بل المطلوب حملة كبرى لرفض الإساءة للأديان وللعنف أيضاً، ودحض الأفكار الكاذبة التي تضمنها الفيلم، وأن تنشط سفارات الدول الإسلامية في العالم كله من أجل عقد ندوات ولقاءات تبين حقيقة الإسلام، بينما يتابع المحامون الأصدقاء للعرب والمسلمين في أميركا مقاضاة منتجي الفيلم وتقديمهم للمحاكمة واستصدار حكم بوقف تداوله. كما ينبغي تنظم حملات إعلامية في الصحف ومحطات التلفزيون الأميركية، يتحدث فيها مسلمون باللغة التي يفهمها المجتمع الأميركي والغربي عامة، من أجل التوصل إلى أرضية مشتركة تمنع قيام أي طرف مستقبلاً بمثل هذا الإنتاج المرفوض. كما ينبغي التوصل إلى صيغة عالمية عبر الأممالمتحدة تؤكد حرمة ازدراء الأديان وتحقيرها، تكون ملزمة لكل الدول الأعضاء. نقلا عن صحيفة الاتحاد