لا أتصور ان أكون يوما من دعاة الحجر على الحريات بعد كل ما قدمت من سنوات عمري للكلمة في كل أنواعها شعرا ونثرا.. ولا أتصور أيضا ان أمارس الصمت على حالة الفوضى التي أصابت الإعلام المصري وأصبحت تهدد تاريخه وحاضره ومستقبله.. وقبل هذا كله فمازلت أعتقد ان الدولة المصرية قد تخلت تماما عن إعلامها بكل أشكاله وألوانه في السنوات الماضية وإنها جلست مثل الكثيرين تراقب الجريمة من بعيد إما خوفا أو إهمالا أو تواطئا وان كانت الأخيرة تمثل كارثة.. لو أجرينا غدا استفتاء بين 90 مليون مواطن مصري هل أنت راض عن أداء الإعلام المصري كلنا يعلم النتيجة.. وإذا سألنا هل توافق على إغلاق فضائيات الإعلام المصري مادامت بهذه الصورة الفجة فسوف تكون النتيجة مذهلة.. كلنا يتحدث عن فساد الإعلام المصري.. وكلنا يعلم ان السبب في ذلك هو الزواج الباطل بين الإعلام ورأس المال.. والدولة تعلم الحقيقة بحكم أجهزتها التي تعرف أين ولدت آخر نملة في عشوائيات منشية ناصر، ومصادر تمويل وتشويه وشراء الإعلام المصري.. وقبل هذا كله فإن حالة الإعلام في بلادنا كانت سببا في كوارث كثيرة وكان ذلك يتطلب وقفة حاسمة من الدولة ولكنها لم تفعل ربما لأن الإعلام أصبح دولة داخل الدولة وهي لا تستطيع ان تفعل معه شيئا. بدأت مأساة الإعلام المصري بحالة من التراجع والترهل والسذاجة في الفكر والأداء والرسالة كنا نشاهد حالة التردي التي وصلنا إليها حوارا وألفاظا ودجلا.. ثم تسربت الفضائيات الخاصة إلى حياتنا ووجدنا إعلاما فجا رخيصا يحتل ما بقى من اهتمامات المواطن المصري .. وسرعان ما تحولت المنابر في الفضائيات إلى مسلسلات للردح والبذاءات والشتائم ثم انتقلت بنا إلى فضائح التوك شو والتي شاهدنا فيها أسوأ ما أحاط بالمجتمع المصري تخلفا وانحطاطا ثم كانت المعارك الهوائية التي سقطت فيها كل القيم التي عاش عليها الإنسان المصري في فكره وسلوكه وأخلاقياته ثم تسربت بعد ذلك برامج غريبة مكانها بيوت السوء وليس العائلات المحترمة والأسر الشريفة.. وتحول الإعلام المصري إلى معاول هدم لكل شىء فانحرفت لغة الحوار وسقطت ثوابت الأسرة وتراجعت سلوكيات الناس وتشوهت أفكارهم. كانت عملية التجريف التي قام بها الإعلام المصري هي أخطر ما شهدته مصر من تحولات وكانت المسلسلات الدرامية آخر مشاهد السقوط والانهيار.. أمام هذا الإسفاف تدفقت أموال كثيرة تشارك في عمليات الهدم الليلية التي يقوم بها الإعلام الخاص عبر فضائياته وهنا ارتفعت أسعار المهرجين على الشاشات وبدأت الملايين تتدفق في الحسابات وأمامها ماتت الضمائر وفسدت النفوس وتحول الإعلام إلى وحش كاسر يهدد الدولة والمجتمع والقيم والأخلاق. لم يكن غريبا أمام هذا الأخطبوط ان يقتحم مناطق في غاية الأهمية والحساسية ابتداء بقيم المجتمع المصري وثوابته وانتهاء بالعلاقات التاريخية مع دول شقيقة غاص الإعلام المصري في أخص خصوصياتها واساء لنا وطنا وشعبا وحكومة.. حدث هذا للأسف الشديد مع أكثر من شعب عربي ولم يكن أمامنا غير الاعتذار.. كان الإعلام المصري سببا في ترويج أكاذيب كثيرة أساءت لنا شعبا وحكومة وكانت جريمة مقتل الشاب الإيطالي واحدة من هذه الكوارث حين نقلت الفضائيات المصرية قصصا كاذبة وملفقة عن مقتل الشاب استخدمتها الحكومة الإيطالية لإدانة الأمن المصري وتشويه الحقائق حول مقتل الشاب.. وقدم الإعلام المصري خدمات مجانية إلى ايطاليا لتنصب محاكمة للنظام المصري من خلال إعلامه.. كان الإعلام المصري سببا في حالة الهبوط والتردي التي وصلت اليها لغة الحوار في مصر وكان يكفي هذا السيل الذي يندفع كل ليلة على الشاشات من الشتائم والبذاءات ويتسلل إلى البيوت ويردده الصغار كل يوم في المدارس والبيوت.. كان الإعلام المصري سببا في كارثة الانقسامات بين أبناء الشعب الواحد أمام المعارك الدامية التي تدور رحاها على الشاشات كل ليلة حول الخطاب الديني وازدراء الأديان والانقسامات السياسية ومعارك النخبة وما ينقله من الفضائح والأكاذيب عبر مواقع التواصل الاجتماعي والنت. كان الإعلام المصري من الأسباب الرئيسية لحالة الإحباط والإكتئاب التي أصابت الإنسان المصري خاصة أجيال الشباب أمام الجرعات المكثفة من اليأس وتشويه الواقع بكل الأساليب حتى فقدت هذه الأجيال إحساسها بالأمن والاستقرار وتراجعت مشاعر الانتماء والولاء للوطن أمام نماذج مشوهة في القدوة. تصور الإعلام على غير حق انه قادر على تغيير كل شىء وإسقاط أي شىء وظهرت نماذج من المذيعين ومقدمي البرامج يحملون أمراض الزعامة الكاذبة فكان الهجوم على كل ثوابت الأمة دينا وأخلاقا وثقافة وعلما وقد ترتب على ذلك انسحاب كفاءات ومواهب كثيرة من الساحة أمام المدعين وكذابي الزفة.. أمام الإغراءات المالية الضخمة التي توافرت للإعلام الخاص من رجال الأعمال ظهرت أمراض الزواج الباطل بين السلطة ورأس المال حيث وصلت الأجور إلى أرقام مذهلة غيرت كل الحسابات والمواقف والأفكار ووجدنا رموزا حقيقية يجرفها التيار وتتحول للأسف الشديد إلى أبواق تشوه الحقائق وتغيب العقول وكانت هذه النقطة من أخطر الخسائر التي لحقت بالإعلام المصري أمام سطوة المال وابتزاز رجال الأعمال. هذه بعض الأمراض التي طفحت على وجه الحياة في مصر أمام تراجع دور الإعلام وانهيار مقوماته المهنية والأخلاقية وتحوله إلى أدوات هدم للثوابت الاجتماعية والوطنية والثقافية. حدث كل ذلك والدولة المصرية تراقب المشهد من بعيد ولا تحاول إنقاذ سفينة الإعلام وهي تختفي كل يوم أمام دوامات الإسفاف والانهيار .. وقفت مؤسسات الدولة تشاهد الأدوار السلبية التي يهدم بها الإعلام كل محاولة للبناء وأمام واقع سياسي مترهل وأمام نخبة فقدت أهم وأخطر مقوماتها وهي القيم وأمام سلطة توقفت عن أداء دورها وتحمل مسئوليتها أمام هذا الجهاز الخطير ساءت الأحوال حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من الأزمات والانهيارات عملا وسلوكا وحوارا ودورا.. وأمام هذا تخلت الدولة عن مسئوليتها تجاه الإعلام الرسمي واكتفت بأن تقدم له القليل من الدعم المادي لدفع الأجور والمرتبات لأكثر من 43 ألف موظف مما أدى إلى ارتفاع معدلات الديون على مبنى ماسبيرو حتى اقتربت من 20 مليار جنيه واندفعت حشود ما بقى من كفاءات ماسبيرو إلى القنوات الخاصة وفقد الإعلام الرسمي تأثيره ودوره ومواهبه وتحكم الإعلام الخاص في الساحة تماما وكانت فرصة ذهبية لأن يفعل في المصريين ما يحب وما يريد.. وسط هذا كله تبحث عن عمل درامي جاد أو مسلسل يحمل فكرا أو برامج تضئ عقول المشاهدين أو غناء يرتقي بمشاعرهم أو شيئا من عبق تاريخ قديم أو رمز من الرموز المضيئة ولا تجد غير الإسفاف والاستخفاف بكل شىء ابتداء بالثقافة والفكر وانتهاء بالكوميديا الراقية حيث تسربت أسوأ الألفاظ في لغة الشارع إلى الشاشات وأصبحت مجالا للمنافسة بين الفضائيات من منها يكون أكثر ابتزازا وإسفافا وسقوطا. أمام هذه الصور القاتمة تحاول ان تبحث عن نقطة ضوء ولا تجد حتى في القضايا التي ينبغي ان تكون جادة وان يترك الأمر لأصحابه من أهل الفكر.. حاول ان تراجع أهم الموضوعات التي ناقشها الإعلام المصري سوف تجد في مقدمتها المزيد من الانقسامات بسبب هذا الإعلام في كل المجالات ابتداء بالخطاب الديني وازدراء الأديان وقضايا الشباب وأحوال البرلمان.. ونشاط الحكومة في حين غابت تماما قضايا التعليم والصحة والثقافة والأمية والمرور وتغافل الإعلام عن كل الإيجابيات ونصب سيركا للسلبيات وكأن مصر انهارت والدولة سقطت بل ظهر في الإعلام المصري من يتباكى على العهود البائدة في ظل الحزب الوطني والإخوان.. كانت مواقف الحكومة من الإعلام تدعو للدهشة والارتياب لجان وقوانين واجتماعات وتصريحات ولا شىء يتم وبقى قانون الإعلام والصحافة في مجلس الوزراء حبيس المكاتب أكثر من عامين. وإذا جلست مع أهل السلطة والقرار سمعت تلالا من النقد للإعلام وتضخمت المشاكل وزادت الأزمات رغم ان الجميع يعرف أسباب المأساة. الإعلاميون يعرفون كل شىء ولا يجهلون أسباب انهيار المهنة أخلاقيا ومهنيا لأنهم يشاهدون الكارثة كل يوم ولم يتحرك أحد.. الدولة والحكومة وكل المؤسسات الهامة يعرفون حجم الأزمة وهم على علم بكل تفاصيلها ولا أدري لماذا يهربون من تحمل المسئولية تجاه قطاع أصبح في العالم كله من أخطر أدوات الحكم. إذا كنا جميعا متفقين على ان الإعلام المصري في محنة وقد أصبح هو نفسه سببا في أزمات كثيرة محلية ودولية وان إنقاذه أصبح ضرورة حتى لا يفلت الزمام أكثر من هذا.. هنا اتساءل: متى تدرك الدولة حجم الكارثة وإلى متى تغض الطرف عن المآسي الليلية التي يحاصرنا بها الإعلام عبر فضائياته وزعاماته وبرامجه الهزلية.. إذا لقيت أي مسئول كبير سوف يقدم لك شكواه من الإعلام وتسأله وماذا فعلتم لإنقاذ السفينة ولا تجد الإجابة. متى تدرك النخبة حجم الأضرار التي كان الإعلام سببا فيها في تجريف العقل المصري وتدمير قدراته ومواهبه؟.. ومتى تدرك النقابات المهنية خطورة اللحظة وما وصلنا إليه من انقسامات في المواقف ولغة الحوار والفكر والرؤى بحيث أصبحنا قبائل متناحرة ووجدنا أنفسنا أمام حالة من الشتات تهدد مستقبل هذا الوطن ولاشك ان الإعلام كان وراء كل هذه الظواهر؟.. متى يدرك رأس المال المصري ان الزمن تغير وان عصابات العهد البائد قد رحلت وان أيام الغنائم قد انتهت واننا أمام واقع وعالم جديد؟.. متى يدرك الإعلاميون ان الإعلام رسالة ومسئولية فكرية وإنسانية وليس مزادا من المزادات التي يقتنص الإنسان فيها صفقة عمر أو مكاسب زائلة؟ ان هذا الهواء الذي يترنح المشاهدون أمامه كل ليلة يمكن ان يكون شيئا منحطا ووضيعا ويمكن أيضا ان يكون ضوء للعقول وغذاء للقلوب ورحلة استكشاف لعالم أجمل وأنقى وأفضل.. المهم ان تختار ما تستحقه وما أنت جدير به. ..ويبقى الشعر تغيبينَ عني.. وأمضي مع العُمر مثلَ السحابِ وأرحلُ في الأفقِ بينَ التمنِّي وأهربُ منكِ السنينَ الطوالَ ويوماً أضيعُ.. ويومَاً أغنِّي.. أسافرُ وحدي غريباً غريبا أتوه بحلمي وأشقى بفنِّي ويولَدُ فينا زمانٌ طريدٌ يخلِّفُ فينا الأسى.. والتجنيّ.. ولو دمَرتنا رياحُ الزمانِ فما زال في اللحنِ نبضُ المُغنّي تغيبينَ عني.. وأعلمُ أنَّ الذي غابَ قلبي وأني إليكِ .. لأنكِ منِّي تغيبينَ عني.. وأسألُ نفسي تُرى ما الغيابْ ؟ بعادُ المَكانِ .. وطولُ السفرْ! فماذا أقول وقد صرتِ بعضي أراكِ بقلبي.. جميعَ البشَرْ وألقاكِ.. كالنور مأوَى الحيارىَ وألحانَ عمرٍ شجىِّ الوترْ وإنْ طالَ فينا خريفُ الحياة فما زال فيكِ ربيعُ الزهرْ تغيبين عني.. فأشتاقُ نفسي وأهفو لقلبي على راحتيكِ نتوهُ .. ونشتاقُ نغدو حَيارى وما زال بيتَي.. في مقلتيكِ .. ويمضي بيَ العمرً في كل دربٍ فأنسى همومي على شاطئيكِ .. وإن مزقتنا دروبُ الحياة فما زلتُ أشعر أني إليكِ .. أسافرُ عمري وألقاكِ يوماً فإني خُلقتُ وقلبي لديكِ .. بعيدان نحنُ ومهما افترقنا فمازال في راحتيكِ الأمانْ تغيبين عني و كم من قريبٍ .. يغيبُ وإن كان ملءَ المكانْ فلا البعدُ يعني غيابَ الوجوه ولا الشَّوقُ يعرفُ .. قيدَ الزمانْ قصيدة "لأنك مني" عام 1983 نقلا عن جريدة الأهرام