الأهرام 07/01/08 لكثيرين فإن فاجعة عمارة' لوران' هي مجرد فاجعة أخري تنضم لقائمة طويلة من الفواجع المماثلة التي مات فيها العشرات أو المئات أو حتي مؤخرا, كما جري في حادث العبارة, تجاوز الثمن البشري وحده الألف. وفي هذه الفاجعة, كما كان الحال في الفواجع الأخري, فإنها تكون كاشفة لما هو أكثر بكثير مما جري في الحادث, حتي بأكثر من استخدام الصحافة والإعلام لها لكي يحرزوا نقاطا جديدة في حملات الإثارة والتحريض ونشر اليأس والخوف. فما جري مع عمارة' لوران' أنها وضعت المجتمع والدولة والسياسات الاقتصادية والاجتماعية كلها علي محك الاختبار. وقد سبقني أستاذنا صلاح منتصر علي هذه الصفحة منذ أيام عندما كتب عاموده' إخفاء عمارة' لكي يأخذ الواقعة كلها إلي استخلاص دلالتين مهمتين: أولاهما: أن العمارة بنيت بدون ترخيص ولكنها قامت فأصبحت التراخيص لا قيمة لها; وثانيتهما أنه صدر بشأنها قرار للإزالة ولكن السكان_ الذين ماتوا تحت أنقاضها بعد ذلك- استشكلوا حتي صدر أمر عسكري أتاح استمرار الأوضاع علي ما هي عليه حتي جاء الجميع القدر المحتوم والقضاء النافذ. وهنا انتهي كلام الأستاذ ومنه سوف نسير إلي مزيد من الدلالات التي لا تقل أهمية عما سبق. فمعني ما جري هو أنه حدث نوع من التواطؤ بين ثلاثة أطراف كان منها الدولة التي لم ترخص, ثم بعد ذلك سمحت من خلال أمر عسكري, وكان منها السكان الذين استمروا في عمارة قابلة للسقوط والانهيار, وكان منها المجتمع كله الذي لا يتوقف إلحاحه في مثل هذه القضايا علي إبقاء الأوضاع علي ما هي عليه. فمن الثابت أن حالة عمارة' لوران' ليست هي الوحيدة, وإنما هناك111 ألف حالة عمارة مطلوب إزالتها, ولكن الإزالة لا تحدث; وعندما يأخذ القضاء مجراه بين السلطات المعنية والسكان ويصدر القضاء أحكامه بالهدم فإن هذه الأحكام لا تنفذ, لأن صراخ المجتمع كله سوف يكون: أين يذهب هؤلاء الناس, وأين هي المساكن التي سوف تأويهم, ولن يسلم الأمر من الصراخ باسم الفقراء ومحدودي الدخل الذين تسعي الحكومة إلي إلقائهم في العراء. لاحظ هنا أن معني الكلام عمليا هو أن تعريض هؤلاء- فقراء أو غير فقراء- إلي خطر الموت أفضل كثيرا من التعامل مع المشكلة, والبحث في إجابة عن السؤال: لماذا لم يجد هؤلاء مسكنا ينتقلون إليه فورا حال تعرض منزلهم لخطر مميت أجمعت كل أجهزة الخبرة أنه يحتاج للإزالة أو الهدم أو التنكيس؟ هنا تدريجيا نبدأ في الوصول إلي الحكاية الحقيقية لمأساة عمارة' لوران', فقد ضاعت هيبة الدولة التي بات لا يهم كثيرا أن تصدر التراخيص اللازمة لبناء المباني والعمارات والحفاظ علي مواصفاتها بحيث لا تنهدم علي رؤوس أصحابها, ورؤوس المجتمع, وتهدر في نفس الوقت موارد وطنية. وذلك بنفس الدرجة التي تجعل هيبة قراراتها وأحكامها بالإزالة ليست لها قيمة كبيرة, فعندما تصير المخالفات والقرارات والأحكام بالآلاف فإنه لا يصبح لها معني, لأن دولتنا الرشيدة, والتي تقوم بمئات المهام الأخري, لا يوجد لديها مواد كافية لمعاقبة من لم يصدر بشأنه تصريح, أو إزالة ما صدر بأمره إزالة. ومع ضياع هيبة الدولة فإن المجتمع يتمدد علي طريقته الخاصة والعشوائية المناسبة لمدي تخلفه أو تقدمه, وهو ما نجده في كل أنحاء مصر المحروسة تقريبا حيث مساكن وعمارات وأحياء تقع كلها خارج نطاق سيطرة الدولة, ليس من الناحية الأمنية بالضرورة, ولكن من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية, وكلتاهما لا تقل أهمية. السؤال الأهم هنا: لماذا جري هذا الانتهاك لهيبة الدولة من الأصل, وهي الدولة التي يهتف باسمها الجميع, ويغنون لها, ويريدون لها أن تكون لها مكانة عظمي ودور إقليمي وعالمي مشهود؟ وكيف يمكن أن يسمح كل هؤلاء, ويتواطأ كل هؤلاء الذين يحبون مصر علي خدش هيبة دولتها؟. هنا نعود فورا إلي أصل الحكاية التي سوف نجدها متكررة في كل الحكايات الأخري; فطوال التاريخ المصري كان السكن هو قضية الناس, فيبنون بيوتهم بأنفسهم, أو يؤجرون من يستطيع بناءها, وبشكل ما طور الناس شكل الأحياء والقري والشوارع والحارات والأزقة التي يعيشون فيها. وعندما جاءت دولة مصر الحديثة مع عهد محمد علي, أخذ التطور مجراه فقامت الدولة بما وجب عليها القيام به وهو' تنظيم' عملية السكن, فخططت المدن, ووضعت النظم والقواعد والقوانين المحكمة التي تنظم عملية البناء وقواعدها. وفي نهاية الستينيات كتب أستاذنا لطفي الخولي مسرحيته الشهيرة' القضية1968' والتي صارت فيلما بعد ذلك والتي اشتهرت بعبارة' نفتح الشباك أو نقفله؟!' لأن بطل المسرحية, أو واحدا من أبطالها, كانت قضيته هي أنه فتح شباكا مخالفا للتنظيم, فوقعت عليه الغرامة الموجعة, عندما قفله حصل علي غرامة أخري لأنه قفله دون إذن, فبات حائرا فيما يفعل. ولكن الدرس كان واضحا وهو أنه كانت هناك نظم, وقواعد, وكانت أيضا تطبق وتنفذ. ولكن لطفي الخولي كان يحارب البيروقراطية في أخف صورها, لأن الدولة المصرية كانت قد بدأت بالفعل عملية تقويض نفسها عندما اعتبرت نفسها مسئولة عن سكن المصريين, وكانت البداية هي التدخل في إيجارات المساكن, وبدأت عملية مطاردة أصحاب العمارات حينما خرجوا من طائفة' الرأسمالية الوطنية' إلي طائفة المستغلين والخونة الذين يخلون بالمسيرة المظفرة للعدل الاجتماعي. وبعد عدة تخفيضات حكومية للإيجارات انهار نظام السكن في مصر كلها, فقد توقف الناس عن الاستثمار, وانهارت العقارات نفسها, لأن الصيانة أصبحت مستحيلة, وتعرضت الثروة القومية إلي أكبر عملية تآكل في تاريخها, وأصبح الفقراء ومحدودو الدخل أول المتعرضين لخطر الموت أو الإصابة أو باختصار البحث عن' الإيواء' حينما تحل الساعة. ولما كان ذلك كذلك وجدت الدولة مرة أخري أن عليها أن تنقذ الموقف من خلال البناء بنفسها للفقراء ومحدودي الدخل, واخترعت الدولة أشكالا من المساكن كان مثالها ما عرف بمساكن عين الصيرة, وكلها تحولت إلي مستودعات للفقر والحاجة. وحدث في مصر ما حدث في كل الدول' الاشتراكية' حينما أصبحت قدرة الدولة علي بناء المساكن أقل بكثير من قدرة الفقراء علي إنتاج الأطفال, فتصاعدت الأزمة تدريجيا, ونشأ نظام' خلو الرجل' الذي كان يدفع في شقق خالية, ثم بعد ذلك انتقل نظام السكن كله إلي التمليك الذي لا يستطيعه لا الفقير ولا محدود الدخل. وكما هي العادة تحول نظام السكن في مصر كما حدث في كل القضايا المصرية الأخري إلي سلسلة من التعقيدات والنظم المتعارضة والمتداخلة. وكما كانت في مصر سبعة نظم للعملة, وستة نظم للحج, وتدخلات للدولة في إنتاج السمن, وتجميع الدجاج, فقد فعلتها أيضا في السكن فباتت هناك شقق حكومية, وأخري تعاونية, وثالثة عشوائية, ورابعة نقابية, وخامسة تابعة للأوقاف, وسادسة خاصة. وفي النهاية أصبحت سوق الإسكان في مصر عاجزة عن المواءمة بين العرض والطلب, فكان طبيعيا تماما أن يصدر111 ألف قرار بالإزالة, فلا يتم تطبيق قرار واحد لأن الدولة لا تستطيع تحمل وجود كل هؤلاء السكان في الشارع بلا مأوي. وهنا تماما يوجد أصل حكاية عمارة' لوران', فمع الصلاة علي أرواح الشهداء والموتي الذين ضاعوا فإن الوفاء لهم ولغيرهم لا يكون بلطم الخدود وإنما بالإخلاص في متابعة القضية والعودة بها إلي أصولها التي هي أن الدولة تخلت عن وظيفتها الأساسية في التنظيم ووضع القواعد والتخطيط والمراقبة وتطبيق القوانين والحفاظ علي هيبة الدولة; وفي نفس الوقت فإنها أخذت وظيفة بناء المساكن وإدارتها وهي التي لا يوجد بين مؤسساتها ما يؤهلها للقيام بهذه الوظيفة. ولكن ربما كانت المعضلة الأكبر أن مثل هذه الفكرة البسيطة_ وهي أن تقوم الدولة بالوظائف المؤهلة لها ولا تقوم بالوظائف غير المؤهلة لها- لا تعجب كثيرين منا, بل إن أغلبية منهم تريد من الدولة مزيدا من التدخل. وكما هي العادة فإن الدعوة للتدخل تكون مصحوبة دوما بحماية الفقراء ومحدودي الدخل وهم الذين أضيروا توا من هذا الخلل في وظائف الدولة فأصبحوا ما بين بيوت آيلة للسقوط, أو عشوائية البناء لا سجل لها ولا وجود, أو ببساطة في انتظار اللحظة التي يصبحون فيها ضمن المنتظرين لمساكن الإيواء التي أصبحت بدورها شحيحة. والحقيقة أنه لن يمكن التعامل مع حكاية عمارة' لوران' في أصولها وفروعها ما لم تجر مراجعة الفكر المصري كله الذائع ليس فقط داخل الحزب الوطني الديمقراطي بل أيضا بين صفوف جميع الأحزاب المصرية, والقوي الفكرية المختلفة التي تبكي في النهار علي ضعف قدرات الدولة, وتحلم بالليل بمزيد من الأدوار لها. وخلال أسبوع واحد كانت النخبة المصرية تبكي ما جري في لوران, وما حدث في الحج, وما جري في أمور كثيرة من زاوية واحدة وهي دور الدولة الذي يبدو دائما أقل ما يجب, لأنه لا يوجد إدراك أبدا أن ذلك ليس دور الدولة من الأصل. فتعالوا نعيد توزيع الوظائف بين الدولة والمجتمع والناس بالطريقة التي تعرفها دول العالم الرشيدة ؟! المزيد فى أقلام وآراء