أكتب مقالي هذا يوم السبت الأول من يناير في العام الجديد2011 كما اعتدت كل أسبوع حينما يأتي موعد الكتابة للأهرام المسائي. وكان الموضوع الذي سأكتب فيه محسوما, فمنذ أيام, يوم27 ديسمبر2010 .كان الأهرام يختتم عامه الخامس والثلاثين بعد المائة ويبدأ عاما جديدا ولما كان العام القادم علي بعد أيام بل ساعات من وقت احتفال الأهرام بعيده السنوي فقد انعقدت النية أن تكون الكتابة حول الأهرام والمستقبل. والحقيقة أن قصة الأهرام نفسها كانت غريبة بشكل ما, فهي الصحيفة المصرية, وربما العربية أيضا, الوحيدة التي حافظت علي وجودها كل هذه المدة. وهي الصحيفة التي أسسها أخوان من المسيحيين اللبنانيين هما سليم وبشارة تقلا اللذان أتيا إلي مصر للتمتع بما فيها من حرية ونهضة ومساواة بين الأجناس والأديان. وببساطة كانت مصر قد عرفت نعمة المواطنة التي لم تكن تعرفها لبنان, ولا غيرها من البلدان العربية. وحينما جاءا إلي مصر قررا احتراف الصحافة وإصدار صحيفة لا تزال يعرفها القارئ كل صباح حتي اليوم.كانت قصة الأهرام موضوعا مثيرا في حد ذاته, سواء في تاريخها الطويل, أو في تقلب العهود التي صدرت في ظلها, أو حتي في تجربتها الشخصية بين رؤساء مجلس إدارة ورؤساء تحرير للصحيفة اليومية كان لكل منهم بصمته وأسلوبه وتوجهاته, ولكن جمع بينهم نوعا ما من الأهرامية التي تجعل لكاتب وقارئ الأهرام مذاقا خاصا. وكان هناك الكثير الذي يقال عن المستقبل; وقد كنت انتهيت توا في خطابي يوم الأهرام من عرض لهذا المستقبل وتوجهاته وكانت كلها متفائلة بعظيم أيام قادمة. وما جمع الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للأهرام كان كلمات طه حسين الخالدة أن الأهرام هو ديوان الحياة المعاصرة للمصريين, وعليها ترجمتها بالصدق خبرا وتاريخا وحكاية وتحقيقا وفنونا صحفية مختلفة أصبح فيها الآن المطبوع والمسموع والمشاهد والمقروء عبر سماوات إلكترونية. ولكن ديوان الحياة المعاصرة للمصريين في يوم السبت الأول من يناير2011 خبر الحادث المشئوم حول انفجار جري بجوار كنيسة القديسين في الإسكندرية, وحملت الأنباء الأولي أن عدد القتلي منهم بلغ21 أما الجرحي فقد تجاوزوا السبعين. كان الحادث مرعبا من عدة وجوه أولها الواقعة الإرهابية ذاتها التي اختفت من مصر منذ فترة طويلة, ومن الطبيعي عندما تقع مثل هذه الحادثة أن يثور التساؤل ويجري القلق عما إذا كانت حادثا وحيدا أو أنها مقدمة لسلسلة من الأحداث. وعندما تكون الفاجعة بهذا الحجم من القتلي والجرحي فإن المصاب العظيم للأسر والمنكوبين تكون له آثار اجتماعية خطيرة. وثانيا أن الأنباء تضاربت فيما يخص الانفجار الذي جري, وبعد أن انتشرت الأنباء علي أنه كان تفجيرا لسيارة مفخخة, جري الحديث علي أنه كان هجوما انتحاريا. كلاهما مصيبة بشكل أو بآخر, فالعربة المفخخة تشير إلي شبكة تنظيمية واسعة فيها من نقل المواد المتفجرة, ومن جهز لها السيارة, ومن قام بعد ذلك بتفجيرها في ليلة ميلاد عام جديد. هنا نجد ما لا يقل عن15 شخصا علي الأقل لا يمكن وجودهم دون تنظيم إرهابي متكامل الأركان من حيث التنظيم والتوجيه والحركة والتمويل. أما إذا كان الأمر هجوما انتحاريا فإنه يعني علي الأقل وجود خلية إرهابية وظفت بعضا من أعضائها لهذه المهمة; وربما تتلوها هجمات أخري. وعلي أي الأحوال, وسواء كان الأمر هذا أو ذاك, وهو ما سيظهر بالتأكيد قبل نشر هذا المقال, فإننا إزاء مواجهة أخري مع الإرهاب وعلينا أن نكتشف عما إذا كانت المواجهة مع موجة إرهابية مثل تلك التي ألمت بنا خلال التسعينيات, أو أنها سلسلة من العمليات المتفرقة كتلك التي جرت دون ارتباط بينها خلال سنوات سابقة. وثالثا أن هناك سعيا حثيثا لخلق فتنة طائفية في البلاد سواء باستخدام الإرهاب, أو باستخدام أدوات مختلفة للتطرف وبث الكراهية والتشبه بأوضاع جارية في بلاد قريبة. وفي مثل هذه الحالة لا يقف الحادث الإرهابي وحده في الساحة, وإنما يضاف إلي سلسلة من الأحداث التي وقع فيها المسيحيون ضحايا بكثرة لم يشفع فيها وقوع ضحايا من المسلمين أيضا لكي تخفف من التطرف والتشدد المضاد. المسألة الآن لم تعد حادثة أو واقعة جرت في الكشح أو نجع حمادي أو العمرانية وإنما هي سلسلة جاء الإرهابيون الآن لكي يحولوها إلي ظاهرة تشق الوطن وتطعنه في أعز ما يملك من وحدة وطنية جعلت سليم وبشارة تقلا يقدمان إليها لكي ينشئا صحيفة تكون ديوانا للحياة المعاصرة بفكر مدني يقوم علي المواطنة والمساواة. الشر عاد مرة أخري لكي يطل برأسه في أول أيام العام الجديد, ورغم أن جوهره حادث إرهابي سقط فيه مسيحيون ومسلمون معا, إلا أن فيه ما هو أكثر بؤسا وتعاسة حينما يضرب بيده الثقيلة الوحدة الوطنية للبلاد. القضية هنا ليست ما نتعارف عليه من هموم الأقباط مثل السعي لقانون موحد لدور العبادة, أو المساواة في تولي الوظائف العامة, أو الوقوف في مواجهة حوادث التعصب والاستبعاد, وإنما هي السعي لتفريغ الوطن من مسيحييه كما حدث من قبل في العراق وفلسطين ولبنان نتيجة الصعود المستمر للحركات الإسلامية الأصولية المتشددة التي يتمسك أكثرها اعتدالا بأن يكون الدين, وليس الشعب, هو مصدر السلطات. القضايا هنا كثيرة ومتشعبة, وربما تكون المهمة الأولي ألا نخلط بينها رغم أهميتها كلها, وحاجتها جميعا إلي المعالجة الحكيمة. فالإرهاب هو العدو الأول الآن ومواجهته ضرورة للمسلمين والمسيحيين معا; فلا يوجد ما يعطل خطط التنمية, أو يوقف طريق التقدم, أو يبدأ عملية الاستنزاف الكبري للموارد الوطنية قدر الإرهاب. فأهداف العملية الإرهابية ليست فقط إحداث الفتنة الطائفية, ولكن معها إحداث أكبر كمية من الدوي في العالم أجمع. فالإرهابيون يعلمون جيدا أن الحادث سوف يستثير أقباط المهجر, والجماعات المسيحية الأصولية في الكونجرس والغرب في العموم, ومن ثم فإن ذلك يفتح ملفات تضرب في الإسلام والمسلمين ومصر كمنارة للتسامح والوحدة الوطنية والاستناد إلي مفهوم الدولة المدنية الحديثة. ويعرف الإرهابيون ما هو أكثر, أنه بعد الانتخابات العامة وما جري فيها, حدث انقسام في النخبة المدنية والتحالف المدني الذي خاض الانتخابات رافضا المقاطعة والخروج علي القانون. الفرصة الآن تبدو ذهبية لخلق حالة من الفوضي لا تسمح للحزب الوطني الديمقراطي بتطبيق برنامجه الاقتصادي; كما أنها لا تسمح للمعارضة المدنية باستجماع قواها والتدبر في واقعها من جديد. إنه انتهاز للفرصة لحالة من الخلل السياسي توقعناها في الأسبوع الماضي وقدمنا مقترحات من أجل إصلاحها. الأمر الآن لا يتحمل الانتظار, وبالطبع من الممكن أن تتحرك الأجهزة الأمنية لكي تقوم بواجباتها وتقبض علي الجناة. ولكن تجربتنا علمتنا أن مواجهة الإرهاب والقضاء عليه لا يتم بالجهود الأمنية وحدها, ولكنه يحتاج إلي تضافر للجهود السياسية والاقتصادية والاجتماعية أيضا. وما نحتاجه الآن برنامج وطني بسيط يقوم علي ثلاثة أعمدة: أولها محاربة الإرهاب حتي يوقف تماما كما جري من قبل, وهي محاربة لكل القوي السياسية فيها نصيب, ولكل القوي الإعلامية قدر. وثانيها الحفاظ علي الوحدة الوطنية إلي أقصي مدي, هذه معركة مع من يريدون فتنة طائفية, ومن يريدون وطنا موحدا, من يريدون مصر كما كانت عليه من وحدة, ومن يريدون مصر دولة للطوائف ككثير من الدول حولنا. وثالثها جمع من الحكماء يعيدون بناء التحالف المدني السياسي مرة أخري, وهو الآن ليس تحالفا في مواجهة من يريدون مصر دولة دينية فاشية, وإنما في مواجهة كل من يريدون الفوضي والعنف في البلاد. في النهاية إنه من الضروري أن نعرف أن هذه ليست المرة الأولي التي يجري فيها ما جري من عنف; وفي كل مرة كان يثبت أن مصر التي أتي إليها سليم وبشارة تقلا لا تزال علي قيمها الأصيلة وكان الفشل دائما من نصيب من حاولوا تدمير الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية المصرية أكثر صلابة مما يظنون, وهو ما سوف تثبته الأيام القادمة. [email protected]