محمد العربي المساري واحد من كبار رجال الفكر والقلم الذين يعتز بهم المغرب، وهو رجل طبع المسار السياسي والفكري والثقافي بفضل تبحره في مختلف العلوم حيث يحمل بين جوانحه وحناياه حب الدفاع عن الإنسانية في أرقى مستوياتها... ودائماً تلقاه مشرق الوجه، باسم الثغر، مرسلاً إليك الخطاب العذب والأمثلة الحكيمة قبل أن تعانقك أفكاره ودروسه بسخاء إنساني حيث يبقى منهل العلم والفائدة والمعرفة واللطف والنضال السياسي. الإعلامي: فهو صرح علمي شامخ وإنسان لذيذ مدافع عن وطنية صادقة، وتحضرني هنا كلماته عندما يدافع عن لغة القرآن منذ أن نال المغرب استقلاله سنة 1956: "ينزل الوافد على المغرب، فيقطع عدة كيلومترات منذ خروجه من مطار محمد الخامس، لا يرى إلا لافتات إشهارية ليس فيها حرف عربي واحد، وكأنه في مدينة أسترالية. ويحدث ذلك بفعل فاعل. فهناك شركة إعلانات هي التي تنشر هذا التلوث البصري وتصر عليه. وهي تتصرف في الملك العام تصرف المالك المطلق، لا يردعها قانون ولا يحد من جسارتها أي اعتبار. وهناك قانون يفرض على مثل هذه الشركة أن تحصل على ترخيص باستعمال العبارات والصور التي تفرضها على أعين المارة. وهناك من يسلم لها بذلك عن طيب خاطر أو عن مصلحة. والنتيجة أنها تزداد إمعاناً في تغيير هوية الشارع المغربي، بجسارة ليس عليها من مزيد... وليس هذا هو المظهر الوحيد الذي يبين الحد الذي بلغته سيطرة الفرنسية... بل إن تلك السيطرة انتشرت مثل الآفات، ويجسم ذلك الانتشار تحديّاً لا يمكن تحمله باستسلام كشيء طبيعي. فليس طبيعيّاً أن يحدث ما يحدث وأن يستمر وكأنه قدَر محتوم. (...) إن الفرانكوفونية ليست هي المشكلة. وقد اختارني الرئيس عبده ضيوف الأمين العام لمنظمتها ضمن فريق يدافع عن التنوع الثقافي في العالم. المشكلة هي مع رهط من المغاربة تنعدم عندهم الضوابط، ويريدون أن يفرضوا علينا بعقلية انقلابية ميولهم ومزاجهم، وفهمهم العبيط للانفتاح". وفي مقالة أخيرة له سينشرها الدليل المغربي للاستراتيجية والعلاقات الدولية نراه كيف يصور الإعلام المغربي بين النظرة التفاؤلية الحالية والمستقبل المنشود، إذ يتحدث إعلاميُّنا عن التكنولوجيا المعاصرة التي أحدثت تطوراً هائلاً جعلت المشتغلين في هذا الحقل، وبمطابع يتم فيها تجميع الحروف، حرفاً حرفاً، ينتقلون عبر مراحل اتجهت بهم إلى خلق واقع مختلف جذريّاً عما ألفوه من قبل، وخاصة حينما حدث الزواج بين المطبعة والحاسوب. ثم وقع انقلاب أكثر جذرية، حينما وقع الزواج بين المطبعة والحاسوب والهاتف. ووقع التعامل مع هذا الواقع الذي فرضته التكنولوجيا بمرونة، إذ إن تحرير فضاء الاتصالات وقع على عكس ما عرفته بلدان أخرى في الجنوب، بدون أي حجْر أو ميل إلى الرقابة. ونتيجة لهذا تعتبر اللحظة الإعلامية الراهنة في المغرب إيجابية وواعدة. وهي تتميز بالاستمرار في الطريق الذي اختير لتنظيم حياتنا في أفق الانفتاح وتوطيد ممارسة الحريات. وفي هذا السياق فإنه على رغم الصعوبات التي ظهرت أحياناً أو التي يمكن أن تظهر في المستقبل، نجد أنفسنا في غمرة ديناميكية تسير بنا حتماً إلى أمام، وتجدنا في كل منعطف ملزمين بتدارك أخطاء السير، لكي نتكيف مع طبيعة الاختيار الذي أقدمنا عليه وهو الحرية. وأتاح التطور الذي دخلت فيه بلادنا، خاصة مع بداية التسعينيات، أن تتحرر الصحافة المكتوبة من الرقابة، وكذلك رفعت الرقابة على الكتب. وهناك رقابة خفيفة على الصحافة الواردة من الخارج، وكذلك في السينما، أما القطاع السمعي البصري فإنه من المستحيل الحيلولة دون وصوله إلى المتلقي المغربي. ومن خلال التعددية الحزبية التي تطبع الحياة السياسية في المغرب، منذ أكثر من سبعة عقود، ظهرت مبادرات أغنت حياتنا السياسية والثقافية، حيث أتاحت للقارئ المغربي أن يتلقى قراءات متعددة لواقعه. وأمكن في خضم ذلك أن تظهر فيما بعد، مقاولات صحفية مستقلة، حينما أصبح المستثمرون في هذا الميدان، مطمئنين إلى أن المجال مفتوح حقاً، أمام المبادرة الحرة في ميدان الصحافة المكتوبة. ولكن تدبير الإعلام العمومي (الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون + صورياد دوزيم + ميدي آن تيفي + وكالة المغرب العربي للأنباء...) يمثل معضلة حقيقية. ومن الواضح أنه يسير حسب تعليمات، صادرة عن غير أولئك الذين يجب أن يساءلوا أمام المؤسسات ذات الحق في ذلك، وهذا التسيير يستجيب شكلاً مع التوجه الليبرالي، ولكن لا يلبي مقتضيات دور الإعلام العمومي في النظام الديمقراطي، حيث تكون هناك آليات شفافة لتدبير القطاع بشكل يضمن التعددية الحقيقية، ويؤمّن تقديم خدمة في المستوى، كما هو ملقى على عاتق المرفق العام. إن وظيفة الإعلام العمومي في مجتمع ديمقراطي، في ظل دولة القانون، تكمن في ضمان تدفق المعلومات مع اعتماد آليات تضمن هذا التدفق بشكل حر ونزيه ومفيد، ولربما أصبح ممكناً الآن التطلع إلى التخلص من بعض السلبيات في ظل الدستور الجديد. والراجح أن مشكل دفتر التحملات في القطب العمومي الذي أتى به وزير الاتصال المغربي الحالي، وقد أسال في الأسابيع الأخيرة داخل الوطن وخارجه الكثير من اللعاب والمداد والعراك السياسي، ليس بمرض عضال بل هو حالة صحية جيدة للديمقراطية الجديدة التي تعرفها المملكة، فهناك تركة سلطوية عند البعض، وعادات مستحكمة عند آخرين، وواقعية ديمقراطية عند فئات مبتدئة وأخرى مُسنة، والحكيم هو الذي يعرف متى وأين يضع رجليه وكيف يخاطب مختلف العقول لتمرير القرارات المدوية والشجاعة وهذا هي لب المسؤولية العليا والقاعدة السامية في أدبيات الانتقالات الديمقراطية في العالم التي يجب أن تتبناها كل الحكومات والمؤسسات السياسية الجديدة في العالم العربي. نقلا عن صحيفة الاتحاد