وسط أجواء أمنية ساخنة وخلافات سياسية محتدمة ،أصدر مجلس الامن الاربعاء 30/ 5 القرار رقم 1757 الخاص بإنشاء المحكمة الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري بأغلبية 10 اصوات وامتناع 5 دول عن التصويت لمحاكمة قتلة الحريري، والمتورطين في الاغتيالات التي وقعت في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية. وقد امتنعت عن التصويت لصالح القرار كل من الصين وروسيا واندونيسيا وجنوب افريقيا وقطر. واعتبرت هذه الدول أنه يجب ألا يفرض مجلس الأمن المحكمة على لبنان في ظل الانقسامات القائمة هناك. وستضم المحكمة عدداً من القضاة اللبنانيين الى جانب قضاة اجانب، وتتكون من دائرتين، الاولى محكمة ابتدائية مكونة من ثلاثة قضاة احدهم لبناني، والثانية محكمة الاستئناف وتضم خمسة قضاة من بينهم قاضيان لبنانيان. ويقضي مشروع القرار بان يدخل الاتفاق الموقع بين الاممالمتحدة ولبنان لانشاء المحكمة حيز التنفيذ في العاشر من يونيو ما لم يتفق الاطراف اللبنانيون على اتمام ذلك قبل هذا الموعد،ومع ذلك يبدو ان المحكمة لن تكون جاهزة للعمل الا بعد اشهر من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وذلك لاعطاء الحكومة اللبنانية فرصة اخيرة لاقرارها وفق الاصول الدستورية اللبنانية فضلا عن الاتفاق على تشكيلها و مقرها وغيرها من أسس عملها .
وقد تم عرض مسودة قرار تشكيل المحكمة على اعضاء مجلس الامن الدولي منذ نهاية الاسبوع الماضي، بعد أن فشل لبنان في التصديق على مسودة نظام المحكمة الدولية وفق الآليات الدستورية الداخلية بسبب الخلافات السياسية العميقة التي تعيشها البلاد ،وقد طلبت الحكومة اللبنانية من مجلس الامن الدولي اقرار المحكمة وفق الفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة الذي يجيز اللجوء الى القوة لتنفيذ القرارات الدولية. وقد أحدث إعلان خبر صدور قرار المحكمة رد فعل فورى فى لبنان حيث سمع دوي الطلقات النارية في العاصمة اللبنانية فى بيروت ابتهاجا بالقرار، واحتشد أنصار سعد الحريري وحلفاؤه عند ضريح رئيس الوزراء الراحل الذي اغتيل و22 آخرون في انفجار وقع في 14 فبراير شباط عام 2005، وهم يحملون علم لبنان وصور رفيق الحريري.
كما رحّب رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة بقرار مجلس الأمن، معتبرا أنه ليس انتصارا لفريق لبناني على فريق آخر. وأضاف السنيورة أن التصويت لصالح المحكمة هو انتصار "للبنان ولكل اللبنانيين."
وتعليقا على هذا القرارأيضاً ، أكد وزير العدل اللبنانى شارل رزق فى مؤتمر صحفى مع الأمين العام للجامعة العربية الأربعاء أنه لايمثل انتصارا سياسيا لأحد وهزيمة لأخر وإنما يجب التعامل معه على أنه قرار قانونى لم تستطع لبنان اتخاذه بموجب الاجراءات الدستورية الداخلية ، فكان على مجلس الأمن التدخل واتخاذ القرار. أما سعد الحريري رئيس تيار المستقبل ، ونجل رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري،فقد رحب بقرار مجلس الأمن الدولي بإنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة المشتبه في تورطهم في اغتيال والده. ومن جهته انتقد رئيس التيار الوطني الحر المعارض النائب ميشال عون الإسراع في إقرار المحكمة الدولية قائلا انه لم يتم الإعلان عن أي مشتبه به في القضية، وتساءل عون في حديث إذاعي بأنه من المهم أن يكون لدى المحكمة متهمين لتحاكمهم، لكن أين هم المتهمون؟. وتابع قائلا إن التحقيقات في ملابسات الجريمة مستمرة حتى الساعة، وبالتالي فإننا نكافح لإنشاء محكمة ليس لديها أي متهمين حقيقيين.
ومن جانبها، وصفت سوريا قرار إنشاء المحكمة الدولية بأنه ينتهك السيادة اللبنانية ويهدد استقرار لبنان. وأكد بيان حكومي سوري بثته وكالة الأنباء السورية الرسمية مجددا معارضة دمشق لقرار تشكيل المحكمة،وأن سوريا متمسكة بموقفها، وترفض تجاوز النظام القضائي السوري، وأكد البيان ضرورة محاكمة المشتبهين السوريين أمام القضاء السوري. وكان الرئيس السوري بشار الأسد أعلن أن أي سوري مشتبه به سيحاكم في سوريا، وإنه لن يسلم أحداً إلى المحكمة الدولية.
وحول أهم ردود الفعل الدولية ؛أبدى وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير ارتياحه لقرار مجلس الأمن حيث عبر عن سروره لإصدار مجلس الأمن الدولي القرار 1757 حول إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي للبنان وقال "إننا واثقون من أن المحكمة ستتمم عملها والمسؤولين سيحاكمون ولن يفتلوا من العقاب طبقا لتمنيات جميع اللبنانيين من كل الأطراف وكل الطوائف". كما رحبت وزيرة الخارجية البريطانية مارغريت بيكيت الأربعاء بقرار مجلس الأمن الدولي بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين في اغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري. وقالت بيكيت إن "مجلس الأمن اثبت بتبنيه هذا القرار، دعمه لحكومة لبنان والتزامه بمبدأ عدم إبقاء أي اغتيال سياسي دون عقاب في لبنان وغير لبنان". ومن جانبه، اعتبر نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الايطالية ماسيمو داليما أن تشكيل المحكمة الدولية لمحاسبة المتهمين باغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري "أمرا ايجابياً لكشف كافة ملابسات الجريمة ". وأضاف داليما في اجتماع عقد بمدينة بوتسدام الألمانية لوزراء خارجية مجموعة الثماني "من الضروري إجراء حوار مع القيادة السورية وإفهامها أن المبادرة ليست موجهة ضد دمشق".
لكن هناك أصوات مخالفة تعالت ، من بينها السفير الروسى فيتالى تشوركين الذى اعتبر القرار مشكوكا فيه بموجب القانون الدولى لأنه يلتف على شروط واردة بالدستور اللبنانى .ورأى سفير الصين وانغ غوانغيا أن مجلس الأمن تجاهل ضرورة حدوث توافق وطنى لبنانى بشأن المحكمة وأن هذا سيسبب مشاكل سياسية وقانونية .
والجدير بالذكر أن فريق الرابع عشر من آذار/ مارس المعارض لسوريا يعمل منذ عام 2005 على السعي لاقرار هذه المحكمة،و يرى أن سوريا لها علاقة مباشرة بمقتل رفيق الحريري وان المحكمة الدولية هي السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة إلا ان دمشق ترفض كل هذه الاتهامات وتنفى علاقتها بما يجري في لبنان منذ انسحاب جيشها منه عام 2005 . في المقابل، أعلنت المعارضة اللبنانية التي تعرف بفريق الثامن من آذار وعلى رأسها حزب الله انها ليست ضد انشاء المحكمة من حيث المبدأ ،ولكن بعد ادخال تعديلات لم يكشف عنها على المسودة المقترحة لنظام المحكمة الدولية. وترى ان سوريا لا علاقة لها باغتيال الحريري وبالاحداث الامنية التي تلت هذا الحادث طالما لم يظهر اي دليل مادي على ذلك. بل تتفق دمشق وحلفائها في بيروت على ان المحكمة الدولية ليست إلا اداة ضغط سياسية تريد الولاياتالمتحدة استعمالها ضد سوريا من اجل تحقيق "المصالح الامريكية والاسرائيلية". كما تنتقد المعارضة اللبنانية الحكومة والموالين لها بارادة تدويل لبنان واخراج المعادلة السياسية فيه من اطارها الداخلي . كما تزامن هذا السجال السياسي وقرب اقرار المحكمة الدولية مع احداث العنف حول مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين بشمال لبنان وبروز حركة فتح الاسلام واشتباكها مع القوى الامنية اللبنانية حيث دارت اشتباكات متقطعة الاربعاء لليوم الحادى عشر على التوالى بين عناصر الجيش اللبنانى ومسلحى الحركة فى محيط المخيم .
ورأى الفريق الموالي للحكومة اللبنانية ان سوريا ليست بريئة من هذه الاحداث بخاصة في ما يتعلق بالتوقيت وبدعم الفصائل المتطرفة بل يتهم سوريا بانها حركت الوضع الامني في لبنان كمحاولة اخيرة لمنع قيام المحكمة الدولية . أما الفريق المعارض للحكومة في لبنان، فيرى ان هذه الاحداث تشكل مخاطرا جدية لا يمكن تفاديها وحلها الا بالتضامن بين الاطراف السياسية وتأليف حكومة وحدة وطنية تضم الفريقين الاساسيين.
وقد وقعت الحكومة اللبنانية اتفاقية لانشاء هذه المحكمة مع الاممالمتحدة عام 2006 لكن تنفيذها بالمؤسسات الدستورية اللبنانية تعذر بعدأن رفض رئيس البرلمان نبيه بري الدعوة لعقد جلسة لاقرارها معتبراً أن حكومة فؤاد السنيورة فقدت شرعيتها بعد استقالة الوزراء الشيعة منها بشكل خاص.ويرى الرئيس اللبناني المؤيد لسوريا اميل لحود ايضا ان الحكومة الحالية "فاقدة للشرعية" ويعتبر كل القرارات التي اتخذتها بعد استقالة الوزراء الشيعة باطلة. كما شن سعد الحريري رئيس تيار المستقبل في لبنان هجوما عنيفا على سوريا واتهمها بالعمل على تحريك "طابور خامس" في لبنان سيقوم ب"محاولات استفزاز" فور اقرار المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة والده مساء الاربعاء. وسترتكز المحكمة الدولية في عملها على تحقيقات لجنة التحقيق الدولية في مقتل الحريري التي يرأسها القاضي البلجيكي سيرج برامرتز والتي تصدر تقارير دورية عن سير التحقيقات دون الافصاح عن اي اسماء او تفاصيل حتى الآن.
وكان اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005 في بيروت قد احدث حركة مطالبة شعبية واسعة بانهاء الوجود السوري في لبنان الذي دام نحو30 عاما،حتى تم انسحاب القوات السورية من لبنان في ابريل من السنة نفسها. واشارت لجنة دولية للتحقيق في تقرير مرحلي الى احتمال تورط مسؤولين امنيين سوريين في اغتياله.وتبنى مجلس الامن القرار 1595 الذي نص على انشاء المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رئيس الحكومة اللبناني الاسبق.
وعلى الرغم من التحذيرات التى وجهها الرئيس اللبنانى المؤيد لسوريا من أن تأسيس المحكمة من شأنه أن يشعل موجة جديدة من العنف فى البلاد إلا أن قادة الدول الغربية ترى أنه من الضرورى من حيث المبدأ محاكمة قتلة الحريرى لتحقيق الامن و الاستقرار فى لبنان .
ومن ناحية أخرى ،أكد الرئيس اللبناني العماد اميل لحود أن اقتراحه تشكيل حكومة وحدة وطنية انقاذية تضم ممثلين للطوائف الرئيسية الست في لبنان تشكل المخرج الواقعي للأزمة السياسيةالتي تعصف بالبلاد منذ سبعة أشهر. واعتبر ان مبادرته ستوفر فرصة جديدة لتحصين البلاد خصوصا وان الاحداث قد اثبتت انه ليس في مقدور أي فريق اقصاء فريق آخر اساسي وفاعل على الساحة السياسية عن المشاركة في المسؤولية الوطنية. ووصف لحود مبادرته بانها متكاملة لاخراج البلاد من ازمة متعددة الوجوه داعيا الرافضين لها إلى ايجاد بديل منها يحظى بإجماع اللبنانيين محذرا من ان أي صيغة مبتورة لن تحقق الحل المنشود.
ورغم اقرار المجتمع الدولى لتأسيس المحكمة الدولية الا أن هناك علامات استفهام حائرة حول تأثيرها على سيادة واستقرار لبنان و ما اذا كانت حقا وسيلة قانونية لانقاذ الحق ومعاقبة المجرمين أم أنها ستؤدى لتوسيع الفجوة بين الفرقاء اللبنانيين و اثارة أزمة سياسية جديدة ؟!.