الشعب يعيش حالة من الضبابية والتضليل.. والكل يحمله المسئولية في الاختيار أمام صناديق الانتخاب.. ليست القضية في حالة المسرحية الهزلية أو العبث الذي نعيشه في انتخابات الرئاسة.. ولكن الأمر ينصب على كل حياتنا السياسية.. كذب.. نفاق.. تملق.. مواءمات سياسية.. مصالح شخصية وحزبية.. وتحالفات تيارات وأحزاب.. وأحاديث عن مواقف ثابتة ومبادئ لا يحيدون عنها.. ثم تراجعات في المواقف.. وتجزئة للمبادئ حسب الأهواء والمصالح.. والكل يرفع شعارات مصلحة البلد والوطنية والحرص على مصالح الناس والارتقاء بمصر دولة عظمى.. ما العمل.. وقد "تاهت" الناس لم يعد أحد يعرف من الصح ومن الخطأ.. من الصادق ومن الكاذب.. من المفتري ومن المفترى عليه. السؤال الذي كان مطروحا على ألسنة الناس منذ شهور ماذا يحدث ولماذا؟. من يفهم؟. ازداد غموضا وقلقا، يعكس ما كان الجميع يتوقع أنه بمرور الوقت واستقرار الأحوال واستكمال مؤسسات الدولة، سوف يفهم الناس كل شيء وتتضح الرؤية للجميع. وكل واحد يجد إجابة عن السؤال الحائر منذ قيام الثورة حتى اليوم. لم تعد الناس تصدق أحدا.. لا مسئولا بالدولة ولا رئيس حزب.. ولا مرشح رئاسة.. ولا لوم عليهم.. لا أحد يعرف شيئا.. ولا أحد يقول الحقيقة.. وأقوال الأمس تتناقض مع أقوال الغد أو أفعال اليوم.. والإعلام تائه يلاحق الأحداث دون كلمة أو معلومة تساعد الناس على معرفة حقيقة ما يجري.. كل يعرض وجهة نظره ويعتبرها الأصح.. ويجب ألا يكون هناك حديث آخر، لا قبله ولا بعده.. فكانت النتيجة زيادة حالة الضبابية والألغاز وحيرة الناس الذين يحملهم الجميع الأمانة.. ويضع المسئولية في أعناقهم.. هذه الحالة معهودة في العمل السياسي داخل أي دولة وعقب كل ثورة وكذلك ارتباطها بغموض في العلاقات الخارجية والاستقطاب من دول معينة لأشخاص بعينهم.. دون أن نقول "تدخلات خارجية".. ولكن يجب ألا يكون هذا الوضع هو "الشماعة" أو بالقول المأثور لعدم قدرتنا على فهم الأمور. والحقيقة التي لا يحب أحد الاعتراف بها.. أن حالة "التوهان" التي نعيشها سببها الأساسي غياب الحقيقة ونقص المعلومات، والكذب والتضليل في التبريرات لأي موقف أو قرار.. أهل النخبة اليوم في أي موقع يصدقون أنفسهم.. لا يريدون أن يعترفوا أنهم يكذبون ولكن يتجملون.. والشعب هو الذي يعرف أن الجميع "بيضحك عليه"!
مرشح رئاسي.. واجه الأنباء عن جنسية والدته باستهزاء شديد.. وبمرور الأيام يتراجع درجة درجة ثم يقول لنا إنها لا تحمل جنسية ولكن "جرين كارد".. لماذا لا تقول ذلك للناخبين من البداية، وأنت ترفع لواء الإسلام وتطالب بالتطبيق الصارم للشريعة ونحن معك في مطالبك ولكن لماذا تتجمل؟!.. وفي أي خانة من الإسلام هذا التجمل الذي يعتبره آخرون كذبا؟!.. قل الحقيقة مرة واحدة حتى تكسب ثقة الناخبين غير اتباعك المطيعين والمناصرين لك مهما كانت النتيجة أو المواقف.. ثم تتضح الحقيقة كاملة أن والدته أمريكية.. هل يعلم ويكذب.. أم لا يعلم؟!.. الحالتان كارثة لمرشح كان يرى قدرته على قيادة دولة. الأخوة في جماعة الإخوان المسلمين قالوا مراراً وتكراراً، لن ننافس على انتخابات الرئاسة ثم يخرجون علينا بأن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية حتمت علينا تغيير الموقف والتقدم بمرشح للرئاسة.. كلمات "كليشيهات" ضج منها الناس وملوا من تكرار سماعها على مدى 30 عاما.. قولوا الحقيقة حتى نثق في أسباب تغيير الموقف ونصدق ما يصدر من تصريحات.. هل الظروف الداخلية كما قال أحد أقطاب الجماعة ورفض المجلس العسكري إقالة حكومة الجنزوري، فكان الرد بالدفع بمرشح رئاسي للإخوان.. والأمر هنا آلاعيب سياسية ليس له علاقة بمبادىء أو موقف سابق للجماعة. وإذا كانت ظروف داخلية أخرى بفشل الحكومة. فما هي إلا شهور قليلة وسوف تشكل الأغلبية البرلمانية لكم الحكومة القادمة.. قولوا.. اننا كنا نخطط للترشح للرئاسة منذ البداية وأن ما اتبعناه كان تكتيكا سياسيا مشروعا حتى تطمئن الدنيا لدعمنا الشعبي وحصولنا على الأغلبية البرلمانية.. وهذا يكفي لثقة الناخب. وكذلك القول بالنسبة للظروف الإقليمية والدولية.. فماذا حدث في المنطقة أو العالم من أحداث أو متغيرات حتى يتغير الموقف؟! اشرحوا للناس كل التفاصيل.. لكي تقتنع وتفوزوا بثقة المواطنين من غير اتباعكم الملتزمين بالسمع والطاعة.. قولوا إننا عملنا بجدية على مدى الشهور الماضية في طمأنة العالم وتغيير الصورة السلبية عن الاخوان المسلمين.. قولوا اننا أكدنا لأمريكا التزامنا بالسلام مع إسرائيل.. ولا نقض لأي تعهدات أو اتفاقيات.. وأن هذا حاز على رضائهم ومع وجودكم في الحكم لن تكون مصر منعزلة عن العالم وسوف يبادر الجميع بكل التعاون، وخاصة الاقتصادي والاستثماري.. ولذلك استغرب ما صدر منسوبا إلى المهندس خيرت الشاطر بأن اللقاء الذي تم مع السيناتور الأمريكي جون ماكين لم يتطرق إلى ترشحه للانتخابات أو قضايا سياسية مع أمريكا أو تخص إسرائيل.. فماذا دار في الحوار إذن؟!.. هل كان لبحث مشروعات استثمارية خاصة؟. من حق الناس أن تعرف.. وكل شيء.. انتهى عصر التعمية على المواطنين، ثم نطالبهم بالثقة فينا والقناعة بأفكارنا ومواقفنا والتصويت لهذا المرشح أو ذاك. وليس ببعيد عن ذلك العلاقة بين حزب الحرية والعدالة وجماعة الأخوان.. كلا الطرفين حرصا مع إنشاء الحزب على تأكيد الفصل التام بينهما.. بينما الواقع غير ذلك تماما.. وعندما فكر الحزب في التقدم بمرشح رئاسة باسمه، كان الإعلان عن ذلك من مقر الأخوان وبحضور ومباركة المرشد العام.. ماذا يحدث؟ ولماذا الازدواجية في التعامل مع الرأي العام.. يلجأون إليه في تفهم مواقفهم والتمجيد في المصريين الأذكياء الطيبين الذين يتمنون ثقتهم وتأييدهم.. ويتعاملون معهم في قضايا أخرى بغموض وتجمل مثلما العلاقة بين الحزب والجماعة. ولكن كونوا على ثقة أن المواطن المصري البسيط الغلبان لديه من الذكاء والفطنة والحكمة لفهم كل المواقف بما فيها المتناقض منها. وأصبح يعرف تماما مراوغات السياسة وأصول الدين!
حالة الغموض وتجزئة المواقف والمبادئ لا ينفرد بها حزب أو تيار سياسي أو ديني ولكنها أصبحت السمة المشتركة للجميع اليوم.. مرشح محتمل جاب مصر من أقصاها إلى أدناها طوال شهور في مؤتمرات شعبية ولقاءات جماهيرية ليؤكد للناخبين انه الوطني الفاهم لكل صغيرة وكبيرة.. ولا ينام من مواجع الشعب وأحواله وأنه الوحيد الذي يمتلك الرؤية والقدرة على إنقاذ مصر، ثم نفاجأ به ينسحب من المنافسة لصالح مرشح بعينه ويكيل الدنيا مدحا في المرشح وحزبه وجماعته.. فماذا حدث؟! ولماذا؟! كان يجب احترام الناخبين وإعلان الأسباب الحقيقية. إنه غير قادر على استكمال المنافسة لأسباب بعينها.. أو أنه اتفق مع المرشح وحزبه على مواءمة يستفيد منها بشكل ما.. ومرشح آخر صورة طبق الأصل من المرشح المنسحب يعلن بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا وحوارات بوسائل الإعلام المختلفة عن برنامجه ومشروعاته وقدراته، ثم نفاجأ بإعلانه.. إذا ترشح فلان سوف أنسحب أنا من السباق..؟! الديمقراطية والحرية في مصر اليوم.. ومع هذه الحالة نمارسها بالتفصيل وعلى المزاج ويغيب عنها المواطن.. صاحب الحق الأول والأخير في المعرفة والفهم ليكون شريكا حقيقيا في الممارسة الديمقراطية. ودون ذلك فنحن نمارس الديمقراطية شكلا وللأسف في أسوأ أشكالها، التي عاش فيها الشعب على مدار 60 عاما وليس فقط فترة حكم مبارك ونظامه.
اختلطت الأوراق لدى الجميع أشخاصا وأحزابا وحكومة وبرلمانا ومجلسا عسكريا.. والضحية هو المواطن ومستقبل الوطن، والجميع يدعي امتلاك الحقيقة والالتزام بالحق والقانون والواقع ينافي ذلك تماما.. لا أحد يعلن الحقيقة والإعلام يلهث دون نتيجة.. والحق أصبح متلونا بالصبغة السياسية.. والقانون غائب.. كل من هربوا من السجون بعد الثورة من التيارات الدينية.. تعاملنا معهم كأبطال حررتهم الثورة.. أليس لذلك إجراءات قانونية لابد من الالتزام بها إذا كنا نريد احترام القانون.. الشرطة تبحث عن آلاف الهاربين.. ونرى عيانا جهارا هاربين على الفضائيات ولا تستطيع الشرطة الاقتراب منهم.. أحدهم قال في أحد حواراته التليفزيونية "الجدع ييجي ياخدني".. وغيره حصل على عفو ورد اعتبار. والناس تعلم ان ذلك ما هو إلا "تستيف أوراق". ثم نتحدث بعد ذلك عن ثورة قامت لنصرة العدالة واحترام القانون. لا يختلف كثيرا الواقع في التعامل مع مرسوم قانون تأسيس الأحزاب.. ينص بكل قوة ووضوح على عدم قيام أحزاب على أسس دينية.. ثم نوافق على أحزاب دينية بالجملة، وكل الناس تعرف ذلك بالاسم.. حزب كذا الاخواني.. وحزب كذا السلفي.. وحزب كذا الوسطي.. والجميع يكذب.. وكل مسئول يغمض عينيه ويصمت وكأننا نطبق القانون "كده وكده" طالما أن الأوراق المقدمة لم تنص على أن الحزب ديني. كفى استهتارا بعقول الناس.. كفى حديثا عن القانون والقيم.. القانون في مصر مازال تفصيلا.. يطبق على المواطن الغلبان من سرق "فرخة"، ويدوس عليه أهل الحظوة والسلطة والنفوذ رغم أن جريمتهم ضياع وطن.. ونصمت لأننا نهابهم أو نخاف أن يتزعموا المليونيات. ونقول "معلش" من أجل الهدوء والاستقرار.. خافوا من الشعب.. لن يقبل أن تضحكوا عليه.. فقد يضحك هو عليكم.. ويفاجئكم بما لا تتوقعونه.. جميعكم.. تيارات وأحزابا وأهل السلطة! نقلا عن جريدة أخبار اليوم