كنتُ وما أزال شديد الحماسة لانعقاد قمة بغداد. أَمَا وقد انعقدت؛ فإن الواقعية هي التي ينبغي أن تحكم النظرةَ إليها وإلى مآلاتها. فالانعقاد بحد ذاته أمر شديد الأهمية وسط عواصف التغيير في العالم العربي، واشتداد الصراعات الإقليمية والدولية على العالم العربي. فقد كان التقدير ألا يستطيع العربُ الاتفاق على انعقاد القمة لسببين: الأول عواصفُ التغيير التي يستحيل معها على بعض الأطراف المهمة سابقاً والمؤثرة أن تحضُر القمة، كما يستحيل على أطرافٍ أخرى أن تتخذ موقفاً من بعض القضايا المطروحة على القمة. والثاني أن موطن القمة بالعراق وبغداد، وهو موطن انقسم عليه العرب منذ غزو الكويت عام 1990. وقد تجاوز العربُ الأمرين، وهذا خيرٌ وأبقى، لأن مؤسسة القمة ضرورية للعرب وجوداً وبقاءً، مثل ضرورة الجامعة العربية التي يتكأكأُ عملُها الآن بسبب التكأكؤ في مصر وضياع الاتجاه الذي نأمل أن لا يطولَ أَمَدُه. إن الأمر أو الدافع وراء الحماسة لانعقاد القمة ببغداد، هو إعادة العراق إلى حضن الأمة وإلى مجالات اهتمامها وعملها. الخواء الاستراتيجي الذي تحدث عنه الأمير سعود الفيصل في قمة سِرت، من أسبابه إخراج الصراع الدولي والإقليمي لهذا البلد العربي الكبير طوال أكثر من عشرين عاماً من مجال الفعالية والتأثير والاهتمام وأحياناً الوجود؛ بحيث صار المهدَّدُ فيه الهوية والانتماء أيضاً وليس الدور فقط. فالذهابُ إلى بغداد هو استعادةٌ لها بثلاثة معانٍ: التأثير لجهة منع إيران من الوصاية على العراق، كما كانت سوريا الأسد وصيةً على لبنان. ودفْع الشيعة والسنة العرب للحفاظ على وحدة العراق فيما وراء الصراع على السلطة. وتصحيح علائق الكُرد بالعرب بعد عقودٍ من الصراع الذي اصطنعه البعثيون على أساسٍ قوميٍّ وعنصري، وما قصَّرت القيادات الكردية في التصرف بحسبه. ومن الطريف والإيجابي اليوم أنّ رئيس القمة كردي، وأنّ الذي سيتابع أعمال الرئاسة حتى القمة القادمة كرديٌّ أيضاً (وزير الخارجية العراقي). فالعروبةُ هي انتماءٌ ثقافي (يتخذ أحياناً صبغةً سياسيةً)، لكنه ما كان ولن يكونَ انتماءً عِرْقياً، أو إثنياً نابذاً للآخر ومُصارعاَ له. وعندما أقولُ إنّ هذه الاعتبارات تجعل من القمة ببغداد ضرورةً، فليس معنى ذلك أنّ العلائق بين السنة والشيعة، وبين العرب والكرد، سوف تنصلحُ بعدها. لكنها رسالةٌ قويةٌ موجَّهةٌ من دول الأمة العربية إلى الإخوة في العراق، أن تكونَ لنا معاً حياة، وأن تكونَ حياةً أفضل! فالصراع الطائفي لايزال مشتعل الأُوار هناك، متخذاً لَبوس التصارُع بين "الكتلة العراقية" و"كتلة دولة القانون". وكان المأمولُ أن يحصل المؤتمر الوطني العراقي للمصالحة الذي دعا إليه البارزاني بكردستان قبل القمة، لكنه تأجَّل إلى منتصف الشهر المقبل. وزاد الطين بلّةً أنّ البارزاني الوسيط شنَّ هجوماً ضخماً على المالكي قبل أيام، بسبب كلّ الاتفاقيات والعهود التي لم ينفّذها، كما أنّ الصدر اتهم المالكي بالديكتاتورية وليس "الكتلة العراقية" فقط. وبذلك صار من الصعب في كلّ المعطيات الحالية أن ينعقد المؤتمر الوطني العراقي في الزمان الذي حُدِّد له أو في أي زمانٍ قريب! والأمر الثالث الذي يزيد من تعقد الموقف، أن إيران لاتزال مصممةً على استخدام العراق بؤرةً للنفوذ، ومخلب قطٍ ضد العرب الآخرين فالجنرال سليماني( قائد فيلق القدس) ينشر شبكاته للسيطرة والتأثير داخل العراق، كما أنه أرسل" متطوعين" عراقيين من فيلقه لمساعدة العسكر بسوريا على إرهاب الشعب السوري وقتله. ولذا فإن العراقيين يحتاجون إلى توحد في وجه الوصاية الإيرانية، وفي وجه استخدامهم في مواجهة العرب الآخرين. ولنصِلْ إلى القضايا التي وجدت القمةُ نفسها في مواجهتها. وهي بالتحديد: المسألة السورية، والمسألة الفلسطينية، وقضايا التغيير العربي. في المسألة السورية لن يكون للقمة تأثيرٌ كبير. وقد اكتفت بدعم مبادرة كوفي عنان والجامعة العربية. والمعروف أنّ هناك خلافاً عربياً بشأن ماهية الحل في سوريا. فالغالبية (ربما باستثناء لبنان والعراق) تدعم التغيير الجذري الذي يُزيل الأسد ونظامه. وقد تحدث كثيرون في القمة بهذا الاتجاه، لكنْ كما يقول المَثَل العربي" العين بصيرة واليد قصيرة"! ولذا فإن دعم مبادرة المبعوث الدولي هو بمثابة انتظارٍ لمعرفة مدى سير الأسد فيها، ومن جهةٍ أُخرى النظر فيما يمكن فعلُهُ في اجتماع "أصدقاء سوريا" الثاني المرتقب في إسطنبول. والواقع أنّ مفاوضات (5+1) بين الدوليين وإيران في 13 إبريل ستكون حاسمةً بالنسبة لنظام الأسد أيضاً. فعلى النتائج تترتب مواقف أَوضح لإيران وروسيا، وربما أميركا وتركيا، إذ هناك أملٌ في أن يحدث انفراج بشأن النووي الإيراني، بحيث يتعاون الجميع ومنهم إيران وروسيا على وقف العنف، وإزالة النظام سلماً وبالتدريج. ولذا فإن إيران تُصعدُ من هجماتها بالعراق وبسوريا واليمن والبحرين، ومن ضمن أهدافها استباق القمة العربية، واستباق اجتماع مجموعة 5+1. إنها تُظهر أَوراقها، وتريد المساومة عليها، ليس من أجل النووي فقط، بل ومن أجل حفظ بعض مناطق النفوذ التي نشرتها في العقدين الماضيين. إنّ مشكلتها العاجلة هي الحصارُ القويُّ عليها، والتهديدات بالحرب من إسرائيل والولاياتالمتحدة. ولذا فالاجتماع المذكور حاسم، وإن لم يحصُلْ تَوافق من نوع ما فقد تنتشر أجواء للحرب والمواجهة، وإيران ترجو إن حصل ذلك أن تستخدم عواطف الشعوب، وفعاليات مناطق النفوذ التي بنتْها في سوريا ولبنان. ويختلف الأمر بالنسبة للملف الفلسطيني. فالعرب مُجمعون على أن مبادرة السلام العربية القديمة (من عام 2002 في قمة بيروت) تواجهُ أخطاراً هائلةً أبرزها الإحساس بعدم التقدير من جانب إسرائيل، ومن جانب الولاياتالمتحدة وأوروبا أيضاً. ومع أن السنة سنة انتخابات في الولاياتالمتحدة وفرنسا، وربما إسرائيل؛ فإن القمة مضطرة لقَول شيء واضح بشأن عملية السلام، وبشأن دعم الشعب الفلسطيني، وبشأن المستوطنات وتهويد القدس. ومرةً أُخرى فإن العرب يعرفون أن المصالحة الفلسطينية لم تتقدم رغم الاتفاقيات الأخيرة في اجتماعات القاهرة والدوحة. ويرجع ذلك إلى الصراعات الفلسطينية على السلطة تحت الاحتلال، وتباين التصورات بشأن المستقبل، والتدخل الإيراني المانع للمصالحة، والمقسم ل"حماس"، والذي يريد إلْهاءها بإمكانات التوحُّد مع تنظيم "الجهاد الإسلامي" الذي يأتمر بأوامر إيران! بيد أن القمة دعمت وتدعم مشروعات التغيير التي أطلقها الربيع العربي بشأن الحريات، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، والتحول السلمي، والتداول على السلطة. وهذا تقدم كبير ما كانت الجامعة تتناوله بسبب ميثاقها وسيادة الدول. لكنها إذ تخالفُ عادتَها وأعرافها، بفعل الروح الجديدة التي أطلقها الربيع العربي، واضطرارها للتدخل في ليبيا وسوريا؛ فإنها تفتح الطريق لدخول الجمهور العربي ومصالحه ومطامحه إلى مجال اهتمامها وتقديرها. ويظلُّ انعقاد القمة ببغداد بالغَ الأهمية بسبب المكان والزمان، أما سوريا وفلسطين، فسَيكونُ عليهما مجدداً الانتظار، وهو أمر نرجو أن يكونَ العراق قد تجاوزه! نقلا عن صحيفة الاتحاد