كانت وزارة التأمينات الاجتماعية واحدة من أغنى الوزارات في مصر وأكثرها ثراء.. ومنذ سنوات بعيدة كانت هذه الوزارة هي التي يجتمع أمام أبوابها أصحاب المعاشات من كل فئات الشعب ابتداء بطوابير الغلابة أصحاب المعاشات الهزيلة وانتهاء بأصحاب المعاشات الكبرى، التي لم تكن تتجاوز في أفضل الحالات مبلغ الألف جنيه شهريا.. لم تكن أموال المعاشات هي مصدر ثراء وزارة التأمينات الوحيد ولكن كانت لديها أيضا قطاعات التأمين بكل الاصول العقارية التي تمتلكها قبل أن يتم بيع شركاتها وخصخصتها وبعد ذلك تم بيع معظم أصول هذه الشركات من العقارات والمباني والشقق في مزادات وهمية مريبة.. كانت هناك تقديرات تؤكد أن أموال التأمينات الاجتماعية بلغت 430 مليار جنيه وهي أموال اقتطعتها الدولة من رواتب العاملين فيها عبر سنوات طويلة من الخدمة وهذا يعني أن أموال المعاشات من حق هؤلاء العاملين ولا تملك الدولة فيها شيئا على الإطلاق.. كانت هناك ضمانات كثيرة لحماية هذه الأموال واستثمارها بصورة تضمن حقوق الملايين من أصحاب المعاشات.. وفي السنوات الأخيرة بدأت الحكومة تنظر من بعيد وهي تتربص بأموال التأمينات وفي بعض الأحيان كانت تقترض منها بعض المبالغ لتمويل العجز في الميزانية.. ومن هنا بدأت علاقة مريبة بين بنك الاستثمار القومي وأموال التأمينات وهنا تسربت مبالغ كبيرة من هذه أموال إلى بلاعات الإنفاق الحكومي.. ولم تكتف الحكومة بما سطت عليه من أموال التأمينات في صورة قروض وقررت يوما ابتلاعها بالكامل حين قررت دمج وزارة التأمينات في وزارة المالية لتختفي تماما معالم الجريمة ويصبح من حق الحكومة ابتلاع الوليمة كلها.. ومع دمج الوزارتين التأمينات والمالية أصبح من حق وزير المالية أن يتصرف في أموال التأمينات كما يحب وكما يريد دون رقابة أو حساب.. وخلال سنوات دار جدل طويل حول مصير هذه الأموال واستطاع د. يوسف بطرس غالي وزير المالية الأسبق أن يخفي معالم الجريمة في ظل نظام فاسد وحكومة متواطئة وبعد قيام ثورة يناير بدأ التساؤل يدور حول مصير هذه الأموال ولم يتردد وزير المالية السابق د. حازم الببلاوي في أن يكشف للرأي العام عن مخاوفه ويتساءل ؟ أين ذهبت أموال التأمينات؟.. لا توجد أوراق رسمية في الدولة المصرية تحدد لنا مصير هذه الأموال بصورة دقيقة، وهل هي في حيازة بنك الاستثمار القومي أم وزارة المالية أم أنها أنفقت بالكامل ضمن نفقات ومصاريف الدولة المصرية ؟.. في الأيام الأخيرة جاءت الإجابة عن السؤال في تقرير أعلنه الجهاز المركزي للمحاسبات حين أكد الحقائق التالية: أولا: أن الحكومة المصرية مدينة لهيئة التأمينات الاجتماعية بمبلغ 400 مليار جنيه هي جميع أموال الهيئة.. ثانيا: أن الحكومة تدفع فائدة سنوية للهيئة قدرها 8% فقط عن مبلغ 400 مليار جنيه في حين أن سعر الفائدة في البنوك يزيد على 12% وأذون الخزانة 15% أي أن الحكومة تحرم الهيئة من نسبة تزيد على 50% من الفوائد وهي حق مكتسب لأصحاب المعاشات وهذا يحرم أموال التأمينات من أكثر من 30 مليار جنيه سنويا هي فرق الفوائد فقط.. ثالثا: أن الحكومة حصلت على 142 مليار جنيه من أموال التأمينات لتمويل الميزانية في سنوات سابقة ولم تدفع عنها فوائد ولم يذكر تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات عدد هذه السنوات والفوائد المستحقة عليها لهيئة التأمينات.. رابعا: تم إسناد مسئولية صرف المعاشات الكترونيا لإحدى الشركات الخاصة بالأمر المباشر دون إجراء مناقصة في مخالفة صريحة لقوانين الدولة الخاصة بالمزايدات والمناقصات.. هذه هي الوقائع التي ذكرها تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات ونشر لأول مرة في الأسبوع الماضي.. وهنا تثور عدة تساؤلات عن دور الجهاز نفسه، وأين كان طوال السنوات الماضية من هذه المخالفات الجسيمة وكيف ترك أموال التأمينات تتلاشى بهذه الصورة خاصة أن الجهاز ملزم بتقديم تقارير سنوية حول الوضع المالي والإداري لمؤسسات الدولة أمام مجلس الشعب ومنها أموال التأمينات الاجتماعية وهي ملك للشعب وليست للحكومة ؟.. إن هذا التقرير الخطير يؤكد أمامنا مجموعة من الحقائق: أن أموال التأمينات بالكامل وهي تزيد على 400 مليار جنيه دخلت بالفعل في أموال الدولة ولا يعنينا هنا هل دين على الحكومة لهيئة التأمينات أم أنها دخلت في سراديب الإنفاق الحكومي أم أن الدولة أصبحت مسئولة عن سداد معاشات المواطنين في كل الظروف والأحوال ولكن الأخطر من ذلك كله أن هذه الأموال لم تعد بالفعل في حيازة الجهة المسئولة عن المعاشات ولا توجد أي ضمانات لاستردادها غير التزام شفهي معلن من الحكومة بأن الأموال لديها.. إن هذه الأموال لا تعتبر ملكا للحكومة.. رغم ذلك أعطت الحكومة نفسها الحق في استثمار هذه الأموال بعيدا عن رقابة هيئة التأمينات صاحبة الحق الوحيد في إدارة هذه الأموال.. وهنا أخطأت الحكومة حين دخلت بهذه الأموال أو جزء منها في مضاربات في سوق المال لشراء وبيع الأسهم ولا أحد يعرف الأضرار التي لحقت بهذه الأموال في هذه المضاربات.. هناك تجاوزات تصل إلى درجة التحايل والتلاعب في موقف الحكومة حين تدفع 8% فقط كفائدة على هذه الأموال أو أن تستخدم 142 مليار جنيه منها لم تدفع عنها فوائد على الإطلاق لسنوات عديدة.. وصل التلاعب مداه حين قامت الدولة بإلغاء وزارة التأمينات الاجتماعية ودمجها في وزارة المالية رغم الاختلاف الشديد في طبيعة عمل الوزارتين ومصادر دخلهما وقد ترتب على هذا الدمج خلط الأوراق ودخول أموال التأمينات إلى وزارة المالية مما أعطاها الفرصة في استخدام هذه الأموال دون وجه حق بل إن الأمور وصلت إلى إنفاق هذه الأموال بالكامل في تمويل العجز في الميزانية بحيث أصبحت الآن دينا على الحكومة لهيئة التأمينات الاجتماعية وهذه جريمة أخرى.. نحن الآن أمام أكثر من جريمة يجب أن يحاسب المسئولون عنها بأثر رجعي.. أولا: اتخاذ الإجراءات التي تحفظ حق أصحاب المعاشات في أموالهم التي تصرفت فيها الحكومة دون وجه حق حتى لو تطلب الأمر صرف أذون خزانة لأصحاب المعاشات لحفظ حقوقهم.. ثانيا: وضع جداول زمنية ملزمة للحكومة لسداد هذه الأموال لهيئة التأمينات الاجتماعية مع وضع إطار كامل لسنوات السداد.. ثالثا: وضع ضمانات كافيه لحصول الهيئة على كامل مستحقاتها من فوائد هذه الأموال حسب أسعار الفائدة السائدة وحسب سعر أذون الخزانة وسداد الفوائد السابقة عن جميع المبالغ التي استخدمتها الحكومة في تمويل عجز الميزانية ولم تدفع فوائدها في سنوات سابقة.. رابعا: محاكمة جميع المسئولين عن هذه الجرائم طبقا لقانون الفساد السياسي والمالي بحيث يشمل كل من تورط في هذه المهزلة وهنا يكون السؤال: من أعطى الحق لوزارة المالية في استخدام أموال التأمينات.. من قرر استخدام هذه الأموال في مضاربات البورصة وشراء وبيع الأسهم؟.. من قرر استخدام هذه الأموال دون سداد الفوائد المستحقة عليها.. من اتخذ قرار دمج وزارة التأمينات في وزارة المالية مما سهل عمليات الاستيلاء على هذه الأموال؟.. كيف سمحت الحكومات السابقة لنفسها بإستخدام أموال لا تملك فيها شيئا بل هي حق كامل لأصحاب المعاشات فأين كان مجلس الشعب من كل هذه الجرائم؟.. وعلى أي بند في قائمة الديون توضع هذه الأموال أم أنها لا تحسب إطلاقا ضمن ديون الدولة المصرية التي بلغت الآن ترليون و200 مليار جنيه حسب آخر التقديرات؟.. فهل أموال التأمينات ضمن هذه الديون أم خارجها؟.. وقبل هذا كله أين كانت أجهزة الرقابة المالية والاقتصادية في الدولة ابتداء بمجلس الشعب وانتهاء بالرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات الذي يبدو أنه أفاق بعد خراب مالطة؟.. وإذا كانت محاكمات رموز النظام السابق قد اقتصرت على الحصول على فيلا أو قطعة أرض فإن جريمة استيلاء الدولة على أموال التأمينات تدين النظام كله وتدخل في نطاق الفساد المالي بما في ذلك الجهاز المركزي للمحاسبات وبنك الاستثمار القومي ووزارة المالية ورؤساء الوزارات السابقون بل إنها تصل إلى رأس النظام الحاكم الذي سمح بكل هذه الجرائم.. وإذا لم تتخذ الحكومة الحالية وهي حكومة ثورة كل هذه الإجراءات أمام القضاء لمحاسبة المسئولين عن هذه الجرائم فإن من حق أصحاب المعاشات أن يتقدموا للنائب العام ويطلبوا التحقيق في هذه التجاوزات التي ارتكبها المسئولون في الدولة في العهد البائد.. إن تسرب أموال التأمينات إلى سراديب الإنفاق الحكومي طوال السنوات الماضية جزء من منظومة فساد طويلة ضاعت فيها أموال هذا الشعب ما بين إنفاق حكومي لا حدود ولا ضوابط له وسلطة فاسدة استحلت لنفسها كل الأساليب في نهب المال العام.. والمطلوب مراجعة ذلك كله.. .. ويبقى الشعر وقف الحزين على ضفاف النهر يرقب ماءه.. فرأى على النهر المعذب لوعة.. ودموع ماء.. وتساءل الحجر العتيق وقال للنهر الحزين أراك تبكي كيف للنهر البكاء.. فأجابه النهر الكسير: على ضفافي يصرخ البؤساء وفوق صدري يعبث الجهلاء والآن ألعن كل من شربوا دماء الأبرياء حتى الدموع تحجرت بين المآقي صارت الأحزان خبز الأشقياء صوت المعاول يشطر الحجر العنيد فيرتمي في الطين تنزف من مآقيه الدماء ويظل يصرخ والمعاول فوقه والنيل يكتم صرخة خرساء حجر عتيق فوق صدر النيل يبكي في ألم قد عاش يحفظ كل تاريخ الجدود وكم رأي مجد الليالي فوق هامات الهرم يبكي من الزمن القبيح ويشتكي عجز الهمم يترنح المسكين والأطلال تدمي حوله ويغوص في صمت التراب وفي جوانحه سأم زمن بني منه الخلود وآخر لم يبق منه سوى المهانة والندم كيف انتهى الزمن الجميل إلى فراغ.. كالعدم حجر عتيق فوق صدر النيل يصرخ بعد أن سئم السكوت.. حتى الحجارة أعلنت عصيانها قامت على الطرقات وانتفضت ودارت فوق أشلاء البيوت في نبضنا شيء يموت في عزمنا شيء يموت في كل جحر في ضفاف النهر يرتع عنكبوت.. في كل يوم في الربوع الخضر يولد ألف حوت في كل عش فوق صدر النيل عصفور يموت.. حجر عتيق لم يزل في الليل يبكي كالصغار على ضفاف النيل ما زال يسأل عن رفاق شاركوه العمر والزمن الجميل قد كانت الشطآن في يوم تداوي الجرح تشدو أغنيات الطير يطربها من الخيل الصهيل كانت مياه النيل تعشق عطر أنفاس النخيل هذي الضفاف الخضر كم عاشت تغني للهوى شمس الأصيل النهر يمشي خائرا يتسكع المسكين في الطرقات بالجسد العليل قد علموه الصمت والنسيان في الزمن الذليل قد علموا النهر المكابر كيف يأنس للخنوع وكيف يركع بين أيدي المستحيل.. من قصيدة "حتى الحجارة أعلنت عصيانها" سنة 1997 نقلا عن جريدة الأهرام