ماذا تسمي حركة تمرد شعبية، تمتد عبر تونس وليبيا ومصر وسوريا، تقدم الجماهير فيها الضحايا بالآلاف؟ هل تسمها ثورة أم مجرد "حركة تغيير"؟! صحيح أنه ليس لديها رؤية واضحة مبتكرة، أو برنامج معلن، أو فكر سياسي اقتصادي فلسفي مبلور. ولكن هل كل "ثورات" العالم كانت واضحة عشية تفجرها؟ الروسية مثلاً، ألم يتقرر مصيرها من "ثورة برجوازية" تشبه الثورة الفرنسية، إلى ثورة اشتراكية، في حركة انقلابية جاءت بالبلاشفة إلى الحكم في أكتوبر 1917، حيث امتدت فترة حكمهم نحو سبعين عاماً؟ هل الثورة بالضرورة عملية تغيير جذرية شاملة لمجتمع ما، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، تقوم بها قوى الشعب أو أحزابه، مع امتلاك عقيدة أيديولوجية للتخلص من نظام قديم وإحلال النظام الجديد مكانه؟ أم أن الثورة "عملية تغيير" يرافقها عادة عنف ووقوع ضحايا، تقوم بها الجماهير الشعبية غالباً، ضد نظام سياسي قائم، للتخلص مما تعتبره الجماهير ظلماً أو طغياناً أو تجاهلاً مستمراً للقوانين؟ هل امتلاك رؤية سياسية اقتصادية متكاملة شرط لنيل صفة الثورة، أم أن هذه الرؤية تتبلور مع مجابهة المسؤوليات؟ ما الوصف الدقيق لجملة حركات التغيير في بعض أقطار العالم العربي، والتي توالت في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها؟ هل يمكن اعتبار مثل هذه الحركات "ثورات" أم جملة "انتفاضات" أم محاولات "تمرد".. أم ماذا؟ هل إعدام القذافي على يد الثوار في "سرت"، مماثل لإعدام "شارل الأول" في بريطانيا عام 1649، أو قطع رأس لويس ال 16 في الثورة الفرنسية، أو تصفية القيصر نيقولا الثاني وأفراد عائلته في الثورة الروسية؟ وإذا أردنا تطبيق بعض المصطلحات الثورية "اليسارية" على هذه الحركات، هل هي "ثورات برجوازية" أم أنها "ثورة تحرر وطني"؟ تعرض المشاركون في "ندوة صحيفة الاتحاد" في أبوظبي خلال لقائهم، في أكتوبر 2011، عبر الأوراق المقدمة والنقاشات فيما بعد، لماهية التحولات العربية الراهنة. ونفى أكثر من باحث في هذه الندوة، وفي الإعلام العربي عموماً، أن يكون ما جرى في مصر وتونس وليبيا ثورة! فالتعريف البسيط والمباشر والدال للثورة، كما نقلنا عن د. عمار علي حسن، هي أنها "عملية تغيير جذري، وهذا التغيير يتم حين نهدم النظام القديم هدماً مبرماً ونشرع في بناء نظام جديد على أنقاضه". لقد صبرت شعوب هذه الدول العربية سنوات طويلة على الاستبداد والفساد والفشل التنموي والقمع. وانفجرت غاضبة بكل ما لديها من وسائل، وقدمت الآلاف من القتلى والجرحى والمسجونين والمفقودين، وصارت بعض خططها وممارساتها موضع اهتمام واقتباس أقطار كبرى مثل الصين، وغيرت نتائج تحركها توازنات العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط والنظرة الدولية للعرب. أفلا ينبغي أن يؤخذ كل هذا في الاعتبار؟ ألم تتجاوز هذه الشعوب "الثائرة"، حدود الانتفاضة والتمرد والعصيان و "شق عصا الطاعة".. لتصل في حركتها إلى آفاق "الثورة"؟ والآن، ماذا في جعبة التيار الإسلامي وأحزابه، لشعوب هذه البلدان ومرحلة التغيير والانتخابات؟ وهل باستطاعة هذا التيار النهوض بمصر وتونس وليبيا وسوريا وغيرها؟ وإذا اتسع أفق هذه الجماعات الإسلامية لتستوعب مسؤولية ثورية وتعقيدات تنموية كهذه، هل تبقى هذه الجماعات في أطرها الفكرية والدينية المعهودة منذ عام 1928 مثلاً، وهل تبقى عقائد وشعارات "الإخوان" والسلف ومختلف الجماعات على حالها؟ هل ستتحول هذه الأحزاب إلى "أحزاب جمهورية" تقابلها "أحزاب ديمقراطية"، أو أحزاب " ديمقراطية إسلامية" تقابلها قوى "ليبرالية ويسارية" مثلا؟ من الأهمية بمكان في اعتقادي أن تحرص كل التيارات التي تنال ثقة صناديق الاقتراع على عدم المساس بالحريات السياسية والاجتماعية والثقافية، وأن تبتعد عن تقليص حقوق المرأة وعزل الأقليات، وأن تضع في صدر أولوياتها النهوض بالتعليم والتنمية وتوفير فرص العمل للشباب. فما أجهض "ثورات" 1952 و 1958 وكل الانقلابات والحركات " التصحيحية"، إنما كان الاعتداء على الحريات الديمقراطية، والتنكب للسبل المجربة المعروفة لنجاح مسيرتها في البلدان المتقدمة، وإحلال نماذج مرتجلة للحكم باسم الديمقراطية الثورية والشعبية عند التقدميين والقوميين، أو الشورى والخلافة والنظام الإسلامي ونظام ولاية الفقيه لدى الإسلاميين. فالتجارب العربية الجديدة ستحمل مختلف التيارات والتحالفات ما دامت الديمقراطية والقيم الليبرالية المرافقة لها بخير. النهضة الآسيوية، حتى في اليابان خلال القرن التاسع عشر والعشرين، لم تعتمد على العقائد الثورية والأيديولوجيات. وقد رأينا كوريا الشمالية المؤدلجة وفيتنام الشمالية التي انتصرت في حربها على الولاياتالمتحدة عام 1974، من أفشل دول آسيا في مجال توفير مستويات المعيشة المرموقة المشاهدة مثلاً في كوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة وغيرها. ففي عام 2007 مثلاً كان إجمالي الناتج المحلي GDP لدولة فيتنام الموحدة، وسكانها نحو 85 مليون نسمة، 263 مليار دولار، بمتوسط 3100 دولار للفرد، بينما كان إجمالي كوريا الجنوبية وسكانها نحو 50 مليون نسمة، 1200 مليار دولار، بمتوسط يزيد على 24 ألف دولار للفرد. وكانت صادرات فيتنام نحو أربعين مليار دولار، مقابل 326 ملياراً لكوريا الجنوبية. ولربما كان هذا "الفراغ الأيديولوجي" من إيجابيات هذه "الثورات" العربية، إذ تتيح لها حرية أكبر في التحرك واتخاذ القرارات، وعدم الوقوع ضحية للشعارات القومية والدينية والسياسية التي كبلت ولو شكلياً الأنظمة السابقة. ورغم مشاركة تيارات دينية وعلمانية وليبرالية وغيرها في إنجاز التغيير، فإن تطورات الأحداث لم تعط لأي منها مكانة خاصة في تحقيق عملية التغيير. ولم تبرز كذلك زعامات ثورية محاطة بهالة القيادة والريادة والإلهام، مما قد يعقد مهام تغييرها أو تجاوزها في المراحل القادمة، بل المدهش أن جماهير مصر وتونس وليبيا وغيرها لم تحرق علماً لأميركا أو إسرائيل، ولم ترفع صوراً لبن لادن والظواهري، وبقيت ملتفة حول شعار بسيط متواضع في مصر مثلاً وهو "الشعب يريد تغيير النظام"، أو حول كلمة واحدة لخصت كل "اللحظة الثورية" وهي كمة "ارحل"! كل هذا في اعتقادي من ملامح النضج السياسي واستيعاب دروس الحركات السابقة والاستعداد لتحمل مسؤوليات التغيير العصيبة. والآن ماذا عن مخاطر استئثار بعض الجماعات الإسلامية بالهيمنة على السلطة، أو وقوع انقلابات حمراء أو بيضاء، أو غير ذلك؟ لا بلد في العالم العربي والعالم الثالث بمنجاة من تسلط بعض القوى والزعامات، أو استفراد رجال الدين أو غيرهم، كما حذر بعض المشاركين في "الندوة" مشيراً إلى التجربة الإيرانية عام 1979. والواقع أن رجال الدين في إيران كانوا منذ ثورة 1905 من أنصار تقييد نفوذ الشاه المطلق، وأسهموا في معارضة طغيان أسرة بهلوي حتى توجت الثورة بالنصر في فبراير 1979. غير أن الجماهير الإيرانية آنذاك لم تكن مدركة جيداً الجوانب التسلطية والدكتاتورية في الإسلام السياسي وخطورة بعض شعاراته على الحقوق والحريات. ولا شك أن جماهير مصر وتونس بالذات أوعى بكثير لهذه المخاطر اليوم بعد انحراف التجربة الإيرانية، وبعد كل هذه الكتابات والحوارات والندوات عن الإسلام السياسي و"الإخوان" والسلف و"حزب الله" و"حزب التحرير" و"القاعدة" وغيرهم في الإعلام العربي! نقلا عن صحيفة الاتحاد