كشفت الأحداث الأخيرة الدامية في ميدان التحرير عن أوجه قصور كثيرة في أداء المجلس العسكري وحكومته وأحزابه السياسية.. لقد تجاهل المجلس العسكري مطالب الشارع المصري طوال تسعة أشهر كاملة واعتمد اعتمادا كبيرا على حكومة ضعيفة متهاوية. ثم ترك الأحزاب والقوى السياسية تمارس لعبة من العبث الرخيص بحثا عن مصالح أو غنائم.,. وقد ترتب على ذلك أننا جميعا خرجنا من المواجهة خاسرين.. ونكاد نفقد لحظة تاريخية نادرة كان من الممكن أن نبدأ معها وبها عصرا جديدا.. وزمانا مختلفا بعد كل ما عانيناه من أزمنة التسلط والقهر والطغيان.. لقد أخطأ المجلس العسكري عندما دخل في دوامة من الإجراءات والتأجيلات والحسابات الخاطئة التي تركت ظلالا واسعة من الظنون والهواجس بينه وبين الشارع المصري.. عندما تحمل المجلس مسئولية القرار شاهدنا كيف استقبل الشارع المصري هذا الموقف وكيف خرج المصريون يرحبون بجيشهم وكأنه عائد من معركة وانتصار باهر.. ولكن المجلس وللأسف الشديد تعثر كثيرا في إجراءات تأجلت ومحاكمات لم تصل إلى شيء.. ومواقف تركت الشارع حائرا ما بين أمن غائب وقوانين مرتبكة ونوايا تفتقد الشفافية.. على الجانب الآخر تحمل المجلس العسكري مسئولية أخطاء الحكومة المرتجفة التي لم تستطع أن تصدر قرارا واحدا في الوقت المناسب ودفعت بالشارع المصري إلى متاهات من العجز وعدم القدرة.. وهنا كانت المطالب الفئوية التي لم تجد من يرشدها أو يوقفها.. ثم كانت كارثة الأسعار وجشع التجار وعدم القدرة على حماية المواطنين والارتباك الاقتصادي والسلبية الشديدة في مواجهة تحديات المرحلة.. في منطقة أخرى وقعت الحكومة والمجلس العسكري فريسة القوى السياسية بكل ما لديها من رصيد تاريخي في الانتهازية والبحث عن المصالح.. وبدأت معركة من الكر والفر وجميعها تبحث عن غنائم سريعة دون حسابات لظروف في غاية القسوة يمر بها الإنسان المصري.. لم تكن القوى السياسية على مستوى اللحظة أو المسئولية أو الأمانة.. بدأت رحلة الصراع بينها حول الاستفتاء وانقسم الشارع المصري إلى من قالوا لا ومن قالوا نعم رغم أن هذا الشارع نفسه خرج من الثورة على قلب رجل واحد.. ولا أحد يدري من حاول استقطاب الآخر: هل هو المجلس العسكري وهو بعيد تماما عن أصول وقواعد اللعبة السياسية، أم هي القوى السياسية التي حاولت استقطاب المجلس وكانت الخسارة من حظ الاثنين معا.. وما بين مجلس لم يكن يعرف الكثير من حسابات وخطايا المناخ السياسي وحكومة افتقدت الحسم والإرادة ونخبة سياسية اعتادت على اللعب الرخيص في العهد البائد بكل أساليب التحايل فيه ضاعت على المصريين فرصة تاريخية في تجاوز المرحلة ووضع أسس سليمة لزمان جديد.. ووسط هذا المناخ الذي غابت فيه جميع الأطراف صاحبة القرار كان من السهل أن تؤجل الإجراءات والقوانين والمحاكمات وان تضيع فرص كثيرة كان من الممكن أن تدفع بنا إلى حالة من الأمن والاستقرار على كل المستويات.. كان من الصعب على أي عاقل أن يقتنع إن المجلس العسكري غير قادر على إتمام المحاكمات حتى يهدأ الشارع وتستريح أرواح الشهداء ويطمئن المواطن إلى أن في مصر شيئا جديدا يسمى العدالة.. ولكن المحاكمات لم تأخذ طريقا يشعره بذلك ويمنحه قدرا من الثقة واليقين في مؤسسات تحكمه.. كان من الصعب أن يقتنع المواطن بأن الحكومة غير قادرة على حماية أمنه وقد ظهرت الحقيقة عندما اقتحمت قوات الأمن بكل إمكانياتها أسر الشهداء المصابين في ميدان التحرير.. فأين كانت كل هذه الشراسة والبلطجية يطاردون المواطنين في الشوارع؟. ولماذا غابت كل هذه الإمكانيات أمام البلطجية وظهرت في كامل لياقتها وشراستها وجنونها وهي تطارد شباب الثورة في ميدان التحرير؟... كان من الصعب أن يقتنع عاقل بان القوى السياسية كانت على مستوى المسئولية وهي تتسلم مهام العمل السياسي في الشارع المصري بعد رحيل النظام السابق وسقوط الحزب الوطني واختفاء برلمان التزوير.. لقد ألقت هذه القوى مطالب الإنسان المصري بعيدا وبدأت رحلة تصفيات لبعضها البعض استخدمت فيها كل الأساليب غير الإنسانية وعادت بنا مرة أخرى إلى زمن الوطني المنحل حينما تخلص من كل القوى السياسية المعارضة لينفرد بالساحة ثلاثين عاما.. لقد انتقلت أمراض الوطني إلى القوى السياسية، حيث ساد شعار أنا وبعدي الطوفان، وهنا كانت استعراضات المليونيات في ميدان التحرير ومهرجانات الرفض والتأييد واللعب بمشاعر الشباب ومحاولات الاستقطاب في كل جانب وسادت الجميع لغة من التعالي والغرور أفسدت المشهد وأطاحت بهيبته.. وكانت النتيجة أن التقى الجميع على أطلال ثورة الشباب في ميدان التحرير.. لم يكن غريبا أن يتساءل الشارع في آخر المطاف ماذا فعل لنا هؤلاء الشباب ونسى الشارع أنهم كانوا أولى الضحايا فقد سالت دماؤهم الزكية تحت أقدام سلطة لم تقدر خطورة الإنجاز وصعوبة اللحظة وأمانة المسئولية.. أمام حالة من الرفض الصارم خرج الشباب المصري مرة أخرى معلنا العصيان على كل الجبهات التي تحملت المسئولية، ثم خانته وضللته وباعته بأبخس الأثمان.. وللأسف الشديد أن المواجهة هذه المرة كشفت كل أوجه الحقيقة الغائبة.. لقد اشترك الجميع في قتل هؤلاء الشباب واستخدام أنواع جديدة من القنابل المسيلة للدموع والتي أصابت الآلاف بحالة اختناق أدت إلى الوفاة.. من أين جاءت الحكومة بالأموال لاستيراد هذه القنابل وهي تدعي أن الوطن في أزمة مالية خانقة، ومن كان الأولى والأحق بهذه الأموال دماء الشهداء أم مزيدا من القتلى.. كانت يد قوات الشرطة والجيش في غاية القسوة وهي تتعامل مع الشباب وكأنها في معركة ثأر وقصاص من شباب تجرأ يوما وأعلن العصيان على نظام فاسد وعصابة أضاعت شعبا وخربت وطنا، لقد انتشرت على الشاشات صور القناصة الذين أنكرت الحكومة وجودهم تماما وكانوا يصطادون عيون الشباب كأنهم في مهرجان للموت.. وعاد الإعلام البغيض بكل تراثه القديم في التحايل والكذب وتشويه الحقائق ومن كان يشاهد القنوات الحكومية والخاصة وهي تضلل الناس كان يسترجع بالضرورة صورة الأمس القريب بكل ما فيها من ذكريات أليمة شوهت صورة الشهداء وأخفت كل الحقائق.. وعاد شباب الثورة من حيث بدأ رافضا كل ما حوله بعد أن تخلى عنه الجميع.. لم يعد الشعب هو نفس الشعب الذي احتضن الثورة وخرج إلى الشوارع وأسقط رأس النظام، فقد تعرض هذا الشعب لعمليات قذرة شوهت صورة الثوار وحملتهم مسئولية غياب الأمن والاستقرار والارتباك في الشارع، رغم أن كل هذه الظواهر كانت جرائم من صنع أصحاب القرار هدفها أن نصل إلى ما نحن فيه الآن ليس دفاعا عن مستقبل أفضل ولكن دفاعا عن ماض ملوث.. لم يعد رجال الشرطة بصورتهم التي حملتها أحداث ما بعد الثورة حيث كان الجميع يسعى إلى جمع الشمل وتجاوز المحنة ونسيان جرائم الماضي القبيح.. ولكن الشرطة عادت إلى منظومتها القديمة في البطش والطغيان بل أنها كانت اكثر شراسة وهي تنتقم من شباب مسالم وكأنها تقول من شب على الإجرام شاب عليه.. واختلطت الأزياء والملابس وأصبح من الصعب ان يفرق احد بين جنود الأمن المركزي وقوات الشرطة العسكرية بثيابهم السوداء لأن الجميع في الميدان يطارد ويسحل ويقتل.. واختلطت الدماء لتضيف صفحات جديدة إلى سجلات القمع والطغيان صفحات أكثر سوادا.. وفي الوقت الذي اندفع فيه آلاف الشباب يطالبون بإنقاذ ثورتهم من مخالب سلطة لم تتعلم من دروس الماضي حين عادت أكثر رعونة وقسوة.. وقف الشباب مرة أخرى يردد نفس الهتافات ويعلن نفس المطالب وكأن الثورة لم تقم وكأن الشهداء عادوا إلى الميدان مرة أخرى.. نحن الآن أمام جيل من الشباب انكرنا عليه ثورته وحرمناه من أجمل وأعظم إنجازات عمره القصير، فلم يجد الحماية من أحد.. فلا المجلس العسكري انصفه ولا الحكومة وفرت له الحماية ولا القوى السياسية وقفت، معه بل إنها باعته في أول مزاد.. وجد جيل الشباب.. شباب الثورة نفسه في الميدان محاصرا من جيل الآباء الذي تخرج في مدارس الطغيان فلم يعرف قيمة المسئولية والأمانة في حكم الشعوب ولم يعرف كيف يفي بما وعد.. ولم يتعلم بعد لغة الحوار.. كان الرصاص أسرع من لغة الحوار.. وكانت القنابل المسيلة للدماء وليس للدموع أقوى من كل الكلمات- وكان الموت هو شهادة ميلاد لجيل جديد دفع الثمن من أجل بناء وطن أفضل وزمان أكثر إنسانية.. والآن هل لدينا الشجاعة أن نعترف بان الجميع سقط في الامتحان وارتكب نفس الخطايا والأخطاء كما فعل النظام السابق من حيث التحايل والتسويف وغياب المصداقية.. فلم تعد المسئولية أمانة.. ولم تعد السلطة حماية.. ولم يعد القرار ضميرا.. وكان الجزاء أن تلحق مواكب الحاضر المتراخية بمواكب الأمس الكئيب ولا عزاء للمتآمرين.. لا تغضبوا لأن الأولاد كبروا وفقدوا الثقة في كل شيء.. في سلطة عقيمة.. وأحزاب مهترئة وآباء باعوا أنفسهم للشيطان.. .. ويبقى الشعر الطقس هذا العام ينبئني بأن شتاء أيامي طويل وبأن أحزان الصقيع.. تطارد الزمن الجميل وبأن موج البحر.. ضاق من التسكع.. والرحيل والنورس المكسور يهفو.. للشواطيء.. والنخيل قد تسألين الآن عن زمني وعنواني وما لاقيت في الوطن البخيل ما عاد لي زمن.. ولا بيت.. فكل شواطيء الأيام في عيني.. نيل كل المواسم عشتها.. قد تسألين: وما الدليل؟ جرح علي العينين أحمله وساما كلما عبرت علي قلبي حكايا القهر.. والسفه الطويل حب يفيض كموسم الأمطار.. شمس لا يفارقها الأصيل تعب يعلمني.. بأن العدو خلف الحلم.. يحيي النبض في القلب العليل سهر يعلمني.. بأن الدفء في قمم الجبال.. وليس في السفح الذليل قد كان أسوأ ما تعلمناه من زمن النخاسة.. أن نبيع الحلم.. بالثمن الهزيل أدركت من سفري.. وترحالي.. وفي عمري القليل أن الزهور تموت.. حين تطاول الأعشاب.. أشجار النخيل أن الخيول تموت حزنا.. حين يهرب من حناجرها الصهيل الطقس هذا العام ينبئني بأن النورس المكسور يمضي.. بين أعماق السحاب قد عاش خلف الشاطيء المهجور يلقيه السراب.. إلي السراب والآن جئت.. وفي يديك زمان خوف.. واغتراب أي الشواطيء في ربوعك.. سوف يحملني ؟ قلاع الأمن.. أم شبح الخراب ؟ قصيدة الطقس هذا العام سنة 1990 نقلا عن جريدة الأهرام