قطعا نظرية المؤامرة صحيحة, ولم تتوقف ماكينتها عن الدوران في أي لحظة من تاريخ الإنسان, حتي في قصة الخلق المذكورة في الكتب السماوية. فإبليس تآمر علي آدم بمجرد أن علم بخلقه.. وقصور السلاطين والملوك والأباطرة من قديم الأزل وهي تشغي بالمؤامرات والدسائس دون راحة. ولا أظن أن أجهزة المخابرات في دول العالم قديمه وحديثه أنشئت من باب قتل الملل وتزجية وقت الفراغ, فهي في الأصل أجهزة مؤامرات ضد الأعداء! لكن هذا لا يبرر هذا التوسع الرهيب في نظرية المؤامرة علي الساحة المصرية, فكل خطوة مؤامرة, وكل كلمة مؤامرة, وكل قرار مؤامرة, وكل رد فعل أيضا مؤامرة إلي الدرجة التي أسمع فيها تفسيرات تآمرية للأحداث تتجاوز خيال أكثر الحالمين والواهمين جنوحا أو جنونا أو عتها أو حمقا. حرير مثالا, باعتبارها هي التي تحتل مساحة العقل والوجدان والتعاسة والاحباط حاليا من نفس كل مصري, وهي حرب غبية إلي درجة مذهلة, فسنجد عشرات التفسيرات التآمرية, وقد سمعتها من الرسميين والمثقفين والناس العاديين.. وأول التفسيرات هو أن المجلس العسكري يحاول تعطيل الانتخابات وتأجيلها حتي لا يسلم السلطة في التوقيتات الواردة في الإعلان الدستوري, فالعسكر ذاقوا طعم السلطة واستحلوها, وطمعوا فيها.. وهو تفسير ساذج لأنهم حتي لو طمعوا في السلطة لن يستطيعوا تنفيذ هذا الطمع, أولا لأنه ضد شرفهم العسكري, والشرف العسكري هو عهد أخذوه علي أنفسهم, ولا أشك لحظة في تنفيذه, فالقوات المسلحة لها تاريخ مع شعبها, ولم يحدث أن كسرت وعدا أو نقضت عهدا معه, ناهيك عن أن الظروف الداخلية والإقليمية والعالمية لا تسمح بتأسيس حكم عسكري في هذه المنطقة من العالم, وفي وقت تهب فيه الرياح عاتية تقتلع أغلب النظم الحاكمة بها, وبعض هذه الرياح تهب من الغرب أو علي الأقل بدفع منه..فكيف يمكن للعسكريين مواجهة هذه الضغوط الدولية؟!..ناهيك عن أن المصريين أنفسهم لن يقبلوا هذا النوع من الحكم بأي حال من الأحوال, وهم الذين خرجوا إلي الشارع من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية! ثاني التفسيرات أن التيارات الإسلامية هي التي حبكت خيوطها بذكاء نادر من تحت لتحت, تجمعت في جمعة قندهار الثانية وأشعلت الحماس وأججت المشاعر ثم خرجت من الميدان, تاركة خلفها بعض الذيول المعتصمة أو التي تحرض علي توسيع الاعتصام المحدود من بضع عشرات من مصابي الثورة إلي مئات, يتحركون من أمام مجمع التحرير إلي وسط الميدان, وهو ما لن يقبله الأمن, فيشتعل فتيل الصدام تدريجيا, ثم يلقي عليه مزيدا من مواد التحريض والتهييج, فينقلب الصدام إلي حرب ويسقط قتلي وجرحي, وفي نفس الوقت تصدر التيارات الإسلامية بيانا تحذر فيه السلطات من مجرد التفكير في تأجيل الانتخابات. والهدف بالطبع هو تخويف الناس من النزول إلي صناديق الاقتراع, فالعنف مثل طائر الرخ يحلق في الفضاء ويمكن أن ينقض علي الرؤوس في أي لحظة, في الوقت الذي تتمكن فيه هذه التيارات من حشد أنصارها والمتعاطفين معها, فتنفرد بالصناديق والتصويت إلا قليلا وتحوز الأغلبية المطلقة, التي تمكنها من السيطرة علي لجنة إعداد الدستور, وبالتالي يسهل عليها تحويل مصر إلي إمارة كما يريدون.. وهذا أيضا تصور ساذج, لا يتفق والذكاء السياسي الذي تتمتع به جماعة الإخوان المسلمين, ولديهم الكثير من الخبرات والتراكم والحنكة السياسية التي اكتسبوها علي مدي 83 عاما, ناهيك عن رجال سياسية كثيرين منهم يعلمون تماما أن التعايش والمشاركة هما الحل المقبول للنهوض بمصر, وليس الإقصاء, وهم بالقطع مختلفون تماما عن السلفيين واحزابهم, والسلفيون لديهم خبرات اجتماعية فقط دون أي خبرات سياسية, لأنهم لم يمارسوا السياسة قط..والاخوان بعمقهم السياسي, بالرغم من اختلافي معهم, هم الرقم الأكثر تأثيرا في تيارات الإسلام السياسي, وحتي الأخطاء التي تقع من بعض قيادتهم مثل صبحي صالح المحامي وغيره هي نتوءات لا يمكن التخلص منها, لأنها من نسيج التفكير الديني! اما التفسير الثالث فهو أن شباب25 يناير بعد أن هدأ الميدان وحلت السياسة محل الثورة, وهل الامتحان الصعب في انتخابات البرلمان حاول أن يهرب قبل أن تنكشف شعبيته الحقيقية وينزاح الغطاء عنه, فيبدو عاريا أمام منافسيه, فيخرج منها خاسرا كل ما جناه في عشرة أشهر من مكانة إعلامية وثورية, فكان اعتصام التحرير هو الحل البديل, فربما يؤدي إلي تأجيل الانتخابات, أو علي الأقل يمدهم بزخم شعبي كما حدث في يناير يعينهم علي الفوز ببضعة مقاعد في البرلمان..وأيضا هذا تفسير ساذج وأكثر هيافة من سابقيه, فهم علي درجة من الوعي والحيوية وحب الوطن بما يحميهم من لهيب هذه التصورات الوهمية. لكن اخطر ما في هذه التفسيرات أمران: الأول: العنف المبالغ فيه من جانب الشرطة, صحيح أن الاعتصامات والمظاهرات المعطلة للحياة تفض بالقوة في العالم أجمع, وليس بالطبطبة والمحايلة, ويسقط فيها مصابون, وكلنا شهدنا وتابعنا كيف تعاملت الشرطة البريطانية مع مظاهرات لندن, والشرطة الأمريكية مع اعتصامات وول ستريت, لكن أن يقتل مايقرب من 30 مواطنا ويتجاوز الجرحي ألف شخص, فهذا أمر شاذ وغير مقبول! والثاني: فقدان ثقة رهيب بين الحكومة والتيارات السياسية.. وكي نخرج من هذه الأزمة, علينا أن نستكمل العملية السياسية: انتخابات برلمانية, تشكيل حكومة انقاذ وطني, ثم الدستور وانتخاب رئيس وتسليم السلطة علي نهاية العام المقبل لا يزيد يوما واحدا! نقلا عن صحيفة الاهرام