سيظل الجدل العام في بلادنا محملا بإرث الماضي وصراعاته, وبعيدا عن التوجه نحو المستقبل, إلي أن نستوعب دروس التاريخ وحقائق الواقع. وعندئذ سنركز جهودنا في ضمان بناء شرعية دستورية حقة, وليس في البحث عن ضمان لهذه الشرعية التي لم تتوافر بعد. فعلي مدي أكثر من ثمانية أشهر, ومنذ الاستفتاء علي التعديلات الدستورية, بددنا الكثير من الوقت والجهد في جدل لا نتيجة له إلا تكريس حالة عدم الثقة بين الأحزاب والقوي السياسية ذات المرجعيات المختلفة من ناحية, وبينها وبين المجلس الأعلي للقوات المسلحة من ناحية ثانية. والحال أنه لا مجال للبحث عن كيفية حماية شرعية دستورية لم يتم تأسيسها بعد. فالخطوة الأولي في بناء هذه الشرعية هي تحديد الأسس التي تقوم عليها الجمهورية الديمقراطية التي يتطلع إليها المصريون. ولا يمكن تحديد هذه الأسس قبل التوافق علي المبدأين المحددين للجمهورية الديمقراطية المؤسسة علي سيادة الشعب, اللذين اهتدت إليهما البشرية تدريجيا منذ عصر النهضة الإيطالية. وأول هذين المبدأين هو مبدأ السلطة العليا للقانون (سيادة القانون) وخضوع المواطنين جميعهم له دون تمييز بين حاكم ومحكوم أو غني وفقير, وبغض النظر عن أديانهم وأعراقهم. وهذا المبدأ هو أساس مفهوم الشرعية. أما المبدأ الثاني في هذا المجال فهو حق المواطنين في المشاركة في إدارة الشئون العامة أي الحق السياسي غير القابل للتصرف. ويتجسد هذا الحق في مشاركة المواطن علي مختلف المستويات بدءا من المستوي المحلي في شارعه أو منطقته التي يقيم فيها, ووصولا إلي انتخاب رئيس الجمهورية والبرلمان في إطار دستور يشارك الجميع في النقاش حوله وفي إقراره. وما الشرعية الدستورية إلا محصلة هذين المبدأين أو حاصل جمعهما بما يقترن بهما من مؤسسات وآليات وتنظيم سياسي قانوني, وما يترتب عليهما من تجسيد للإدارة الشعبية التي أطلقت عليها أسماء عدة تعبر عن المعني نفسه مثل الإرادة العامة والإرادة المشتركة وغيرهما. وترتبط الشرعية الدستورية, بهذا المعني, بفكرة العقد الاجتماعي التي تعتبر هي الصيغة الأولي التي اهتدي إليها الفكر السياسي تعبيرا عن معني التوافق العام. فالدستور يمثل, وفقا لهذه الصياغة, عقدا بين الحاكم والمحكوم أو بين السلطة السياسية والشعب. غير أن تلك الصيغة تقادمت ولم تعد كافية لتحقيق التوافق الذي ينبغي أن يقوم عليه الدستور لأن العلاقات التي ينظمها ليست محصورة بين شعب وسلطة. فالدستور ينظم أوضاع الدولة والمجتمع بوجه عام. ولذلك فهو يتطلب توافقا بين مختلف فئات المجتمع وشرائحه. غير أن فكرة التوافق علي الدستور ليست منبتة الصلة بصيغة العقد الاجتماعي, بل هي امتداد طبيعي لها. فالأساس في تلك الصيغة هو أنه علي المواطن العمل من أجل تحقيق المصلحة العامة, وليس الاهتمام بمصلحته الخاصة فقط. ومن هنا ظهرت فكرة الإرادة العامة عند جان جاك روسو مقترنة بصيغة العقد الاجتماعي ومعبرة عن إرادة الشعب في مجمله, وليست فقط إرادة الأغلبية في لحظة معينة. وصارت الديمقراطية, في أحد معانيها وتأسيسا علي ذلك, هي سيادة الإرادة العامة أو إرادة الشعب. وقد أصاب الشطط بعض المفكرين والفلاسفة السياسيين عندما اعتبروا إرادة الأغلبية تعبيرا عن مصلحة خاصة, علي أساس أنه توجد إرادة عامة واحدة للشعب كله, وتأثرا بفكرة أن هذه الإرادة غير قابلة للتجزئة وأن كل ما عداها بالتالي يدخل في نطاق ما هو خاص. ووجه الشطط في هذا التكييف هو أنه يلغي فعليا ودون قصد فكرة الإرادة العامة أو يجعلها معلقة في الهواء علي نحو يستحيل معه تنزيلها علي الأرض لأن الوسيلة الوحيدة لتجسيدها في الواقع هي الانتخابات العامة. ولكن هذه الانتخابات لا يمكن أن تحقق إجماعا أو أغلبية كاسحة إلا إذا تم تزويرها بما يعنيه ذلك من تزييف للإرادة العامة. فالانتخاب يعني الفرز والاختيار ويؤدي بالضرورة إلي التعددية لا إلي الأحادية. ولذلك لابد أن تكون الأغلبية معبرة عن الإرادة العامة, ولكن ليس تعبيرا مطلقا بل نسبيا موضوعيا وزمنيا. فهي تعبر عن الإرادة العامة بشكل مؤقت حتي موعد الانتخابات التالية, وفي إطار التوافق العام الذي يجمع الأغلبية والأقلية. فليس من حق الأغلبية أن تنفرد بتغيير المقومات الأساسية للدولة والمجتمع, وإلا اضطربت أحوال البلاد والعباد لأن هذه الأغلبية متغيرة. وليس معقولا أن تختلف تلك المقومات عقب كل انتخابات. وليس هناك ما يدل علي أن هناك خلافا علي هذا كله في الساحة السياسية في مصر الآن. ولكن المسألة التي تخلق التوتر الراهن هي كيفية بناء التوافق العام علي المقومات الأساسية التي تقوم عليها الشرعية الدستورية في ظل الآلية التي تم اعتمادها في استفتاء 19 مارس الماضي ثم تقنينها في الإعلان الدستوري المؤقت وهي أن ينتخب البرلمان جمعية تأسيسية من مائة عضو تضع مشروعا للدستور لطرحه في استفتاء عام. وبالرغم من أن هذه الآلية تكفي لضمان بناء التوافق العام ليكون الدستور الجديد معبرا عن الإرادة العامة, فقد تصاعد الجدل حول ضمانات تحول دون أن يأتي هذا الدستور معبرا عن الأغلبية البرلمانية وحدها. ولكن الفرق شاسع بين ضمان عدم انفراد الأغلبية بوضع الدستور وإيجاد وضع يؤدي إلي انفراد الأقلية بهذه العملية. فالتوافق هو المطلوب عبر مشاركة الجميع في صنع الدستور الجديد بعيدا عن احتكار الأغلبية أو الأقلية, وبمنأي عن هيمنة أي مؤسسة علي غيرها. فإذا كان احتكار الأغلبية خطرا, فالبديهي أن احتكار الأقلية لا يقل خطرا لأنه يقوض شرعية الدستور التي تتطلب توافقا حرا علي بناء الجمهورية الديمقراطية الأولي في تاريخنا. نقلا عن صحيفة الاهرام