الملايين من المصريين وفي مقدمتهم جيل الشباب الذين خرجوا من بيوتهم ومدارسهم وجامعاتهم وأماكن عملهم.. ومن أسواق البطالة ليدكوا أنظمة الاستبداد والاستغلال والفساد في الثورات العربية.. كانوا أبعد مايكونون علي الطائفية والمذهبية، وكانوا أبرياء من لوثة التعصب والاستعلاء.. وكانوا انقياء مثل شعار الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. الثوار الذين صنعوا المعجزة.. من تونس إلي ميدان التحرير وسائر المدن المصرية.. إلي درعا واخواتها في سوريا.. إلي صنعاء وتعز.. إلي شباب وبنات ورجال »دوار« أو ميدان اللؤلؤة في البحرين.. إلي بنغازي وبن وليد وسرت في ليبيا.. .. هؤلاء الثوار الذين أعلنوا التحدي للمستحيل وانطلقوا، بصدورهم العارية ليقولوا للحكام: ارحلوا.. ورحل البعض بالفعل، والآخرون علي وشك الرحيل.. .. هؤلاء الثوار يؤمنون بالوطن والشعب والمستقبل ولا يميزون بين مواطن وآخر علي اساس الدين أو الجنس أو المعتقد.. فالحرية عندهم لا دين لها، والعمل لا مذهب له، والخبز لاينتمي إلي طائفة بعينها. انهم يؤمنون بالمساواة والديمقراطية وبمبدأ المواطنة. يقول الكاتب اللبناني نصري صايغ إن من جاء بعد جيل الشباب والتحق بالثورة، دون أن يكون رائدها أو صانعها، حمل معه ثقافاته السياسية والدينية وأقحمها في مسار الثورة.. دون ان يتخلي عن عصبيته الدينية أو السلفية. البعض يحاول »اصطياد« الثورة. والبعض يحاول »أسلمتها«. .. فالثورة في البحرين مثلا لم تكن شيعية، ولكن دعاة التعصب حاولوا أن يلصقوا بها هذه الصفة. والثورة في سوريا هي حراك شبابي شعبي لاعلاقة له بالطوائف والمذاهب، ومع ذلك.. فقد أصرت السلطة علي »أسلمته« وعلي »سلفيته«. هناك من يحرضون علي ممارسة التعصب ومنحه شرعية دائمة. وكما نعلم.. فإن الاستبداد يلعب دورا في إلغاء الجوامع المشتركة بين المواطنين بهدف تحويلهم إلي أعداء أو إلي أتباع. وثمة اجماع علي أن مشروع اليهمنة الأمريكي الإسرائيلي يهدف إلي تقسيم المنطقة وتفكيكها طائفيا وعرقيا ومذهبيا. ومع ذلك، فإن هناك من ينفذون مايريده الغرب حتي لو كان ذلك برغم ارادتهم أو بدون وعي ويحق لكل مواطن مخلص ان يتساءل: لماذا نجعل من أنفسنا أدوات لذلك المخطط الجهنمي؟ فهل هناك من يعتمدون المنطق الصهيوني الهادف إلي تفتيت الدول العربية، التي تتميز بالتعددية الدينية والمذهبية، إلي كيانات طائفية ممزقة ومتشرذمة، مما يضفي شرعية علي وجود الكيان الصهيوني الإقصائي الذي يتأسس حصرا علي الهوية الدينية؟ وهل هناك من يحاول تحويل الثورات الشعبية الجديدة، التي اندلعت منذ بداية هذا العام إلي صراع داخلي أو حرب أهلية بين أبناء الشعب الواحد؟ هل هناك من يريد نشر وتعميم الكراهية بين مواطني البلد الواحد؟ لقد أصبح العربي يولد في بيت يُلقن فيه دينه.. وفق توجيه مؤسسات تفرض وصايتها علي العقيدة، وتتولي صياغتها وتعمم منها مايفرّق ومايكفّر وما يجب نبذه واحتقاره وذمه. وما أن يخرج العربي من بيته حتي يخضع لثمانين فضائية دينية إسلامية متطرفة وعشرين فضائية مسيحية متطرفة، تبث إلي جانب الدعاء والصلوات والشروحات ما يمكن تسميته بهستيريا التعصب الديني. هناك من يريدون الزج بأكبر عدد من المواطنين في الجحور الطائفية، والترويج لثقافة سلبية إزاء الآخر المختلف. ويمكن رصد عدد كبير من الظواهر المرضية التي أفرزتها عقود التهميش والتمييز، ومحاولات مستميتة لصنع أوطان معبأة في قوالب جامدة.. وتديين الدولة والمجتمع في مواجهة من يرغب في توطين الجميع داخل الوطن. ثمة أجواء من المزايدات والغلو في التطرف الديني.. وجهود لاحلال »الجماعة« محل الدولة، ومسعي لكسب المعارك بمنطق استثارة المشاعر والكراهية وليس بمنطق العقل. في الثورة المصرية 52 يناير لم يرتفع شعار ديني متطرف أو تفكيري، ولم تكن هناك طائفية أو مذهبية. الآن يفتي أحد المشايخ القياديين السلفيين بتحريم التصويت في الانتخابات القادمة للمرشح المسلم »الذي لا يصلي« أو للمرشح القبطي أو العلماني أو الليبرالي، الذين لم تتضمن برامجهم تطبيق الشريعة الإسلامية. ويقول »ان التصويت لهؤلاء حرام شرعا، ومن يفعل ذلك، فقد ارتكب إثما كبيرا ويجب عليه الكفارة«! وهناك قياديون بارزون في تنظيم »الجهاد« و»حزب الفضيلة« يعلنون عن تكفير مفتي الديار المصري ودار الافتاء، لمجرد ان الدار أكدت فتوي صادرة منذ 21 عاما حول حق أهل الكتب السماوية في الحرية الكاملة في ممارسة طقوسهم الدينية وإقامة معابدهم. والجريمة الأكبر، في نظر هؤلاء القياديين في تنظيم »الجهاد« هي ان دار الافتاء المصرية أكدت علي أهمية قيام الدولة المدنية الحديثة علي مفهوم المواطنة. وقال قيادي في تنظيم »الجهاد« وحزب »الفضيلة« إن فتوي دار الافتاء »تبدل أحكام الله وافتراء علي الله ورسوله«! أما الشيخ »بكر بن عبدالعزيز الأثري«، عضو اللجنة الشرعية داخل تنظيم »الجهاد« التي تصدر الفتاوي فقد نشر كتابا يعلن فيه »ان الاجماع بين علماء الأمة يحرم بناء الكنائس أو تجديدها في كل البلاد الإسلامية المفتوحة عنوة، ومن بينها مصر!«. ويقرر عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية في الإسكندرية أن »ديننا لا يعرف المسلم العلماني أو المسلم الليبرالي، فهذه المبادئ تخالف دين الله، ولا يجوز أن نقول هذا مسلم علماني أو مسلم ليبرالي، فإما أن تكون مسلما أو تكون علمانيا أو ليبراليا«!! وقال أحد الدعاة من حزب سلفي: »نرفض تصريحات الفريق سامي عنان، رئيس الأركان، عن الدولة المدنية«. والمرشد العام السابق لجماعة الاخوان يوضح ان رفض المصريين ل»الدستور أولا«، عبر التصويت في استفتاء مارس الماضي »نصر ثان من الله«! ويقول الشيخ محمد عبدالمقصود: »الأفضل للمرأة أن تجلس في بيتها«! وهتف السلفيون أمام محكمة كفرالشيخ الابتدائية، أثناء نظر القضية التي رفعها مفتي الديار المصرية علي الشيخ أبواسحاق الحويني الذي وجه الشتائم للمفتي في أحد البرامج التليفزيونية، قائلين: »يا حويني فوت فوت.. علي جمعة ( المفتي) بكرة يموت«! وهناك مفكر يصف نفسه بأنه إسلامي يصف متظاهري ماسبيرو الأقباط بأنهم »عبدة الشيطان« ويقودهم »الشيطان الأكبر« البابا شنودة! ولم يتردد الرجل في تشبيه الأقباط بأنهم »السرطان الذي يجب استئصاله«!! إذن.. فإن هناك من يريدون تمزيق الوطن وعرقلة مسيرته. وبدلا من بحث كيفية تطوير البحث العلمي ومكافحة الفقر والبطالة، والعمل علي رفع مستوي المعيشة، وتوفير فرص العمل والتعليم والعلاج والرعاية الاجتماعية للمصريين.. فإن المطلوب هو اعلان الحرب علي الأقباط والليبراليين والعلمانيين.. وكل من يختلف في الرأي والموقف مع المتطرفين.. ذلك أن هؤلاء جميعا.. أعداء للوطن والأمة وكفرة.. وبالتالي لا يبقي سوي إقامة دولة دينية علي النمط الأفغاني لكي لا تكون إسرائيل وحدها هي الدولة الدينية في المنطقة!! أصحاب دعوات التكفير لا علاقة لهم بثورة يناير. وكلمة السر: العودة إلي شعارات 52 يناير. نقلا عن صحيفة الاخبار