تطرح منطقة القرن الأفريقي -مثل المنطقة العربية تقريباً- سؤالاً محيراً حول المسألة الديمقراطية، ومفهوم الإرهاب، خاصة الإرهاب الدولي. فإثيوبيا تزعم أنها تملك نظاماً ديمقراطياً، ثم تقوم بممارسة إرهاب الدولة في الصومال، بل وفي أنحاء من إثيوبيا نفسها مثل الأوجادين. والصومال يعيش جواً إرهابياً ظاهراً، لكن أية خطوة للتهدئة ترتبط بإجراءات هي في جوهرها ديمقراطية بالفعل، سواء في حوار الحكومة مع عشائر الأغلبية، أو في اجتماعات العشائر فيما بينها لبحث مدى القبول أو الرفض ل"اتحاد المحاكم الإسلامية". وكان يمكن أن تكون كل هذه الأجواء لصالح مفهوم الديمقراطية البسيط الذي نعرفه، ولكن القوى الخارجية المتسلطة باسم الديمقراطية، لا تسمح بالممارسة الديمقراطية الحقيقية في هذه الأجواء نفسها. وهذا ما جعلنا أمام أوضاع استبدادية تماماً في كل من إثيوبيا والصومال، بسند من القوى الديمقراطية الكبرى! لكن كيف؟ في إثيوبيا: حكومة الرئيس "ملس زيناوي" و"حزب الجبهة الشعبية الديمقراطية" يأخذان بالنظام التعددي، و على الساحة حوالي أربعين حزباً سياسياً، وأجريت انتخابات عامة للمرة الثالثة بعد ثورة 1991 في مايو 2005، وكاد تحالف المعارضة (الوحدة الديمقراطية) يفوز بأغلبية البرلمان (547)، ولكنه رغم كل التدخلات المعروفة، أعلن فوزه بحوالي 200 مقعد فقط، مع فوزه في جميع مقاعد العاصمة أديس أبابا، والبالغ عددها ثلاثة وعشرين مقعداً. وعندئذ اعتقلت الحكومة من عناصر الرفض والعنف حوالي ثلاثين ألف عنصر، وتحدثت إحصاءات رسمية عن مقتل حوالي مائتين. وهي نفس الإحصاءات شبه الرسمية التي اعترفت مؤخراً بمقتل حوالي 500 متمرد في منطقة أوجادين (الصومالية- الإثيوبية). وظلت أشكال التمرد والعنف الداخلي طوال عامين، وقياداتها الكبرى البالغ عددها حوالي سبعين شخصية في السجون، رغم الاحتجاجات الشديدة من أنحاء العالم والمنظمات الحقوقية الدولية. وفي هذه الظروف نفسها يصدر حكم المحكمة الدولية بضرورة انسحاب القوات الإثيوبية من منطقة الحدود مع إريتريا وفق تحكيم على مناطق الخلاف. لكن إثيوبيا ترفض تنفيذ الحكم، حفاظاً على معنويات جيشها الذي حارب بعنف هناك، فضلاً عن احتمال استفادة تحالف المعارضة من إظهار ضعفها وهو الذي يضم قوى متشددة تجاه إريتريا. وهنا يأتي طلب الأميركيين منها التدخل المسلح في الصومال في صيف 2006 ليصبح فرصة ذهبية للنظام الإثيوبي, ليكسب على جبهة المعارضة, وجبهته الخارجية مع الأميركيين في نفس الوقت. ويبدأ مظاهرة جديدة كنظام ديمقراطي، إلى حد إفراجه عن بعض زعماء المعارضة الكبار في أغسطس 2007، مع إجبارهم على الاعتذار عن العنف، كما أنه ضمن استمرار بند المعونة الأميركية لإثيوبيا البالغ ستمائة مليون دولار، مقابل استمرار إثيوبيا في موقفها المعاون في مواجهة الإرهاب في شرق أفريقيا، بل ودعمها لخطة بناء القيادة العسكرية الأميركية الجديدة لأفريقيا، والتي ستبدأ عملياً في سبتمبر 2007، وإن لم ترشح "أديس أبابا" مقراً، فإن جارتها جيبوتي مرشحة لها برعاية إثيوبية طبعاً (ويبدو الحرج الأميركي هنا من وجود مقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا). وسيتيح ذلك للنظام الإثيوبي سنداً قوياً لاستمرار سياسته الاستبدادية في الداخل والخارج على السواء، مع الرتوش الديمقراطية الضرورية لقيامه على نظام التعددية الحزبية وتهدئة المعارضة بما يتفق والإعلانات السياسية الدولية. لكن من سوء حظ النظام أن يشتعل الموقف في "الأوجادين" (الصومال الغربي أو الإقليم الصومالي شرق إثيوبيا) بقيادة "جبهة التحرير الوطنية" التي تتنافس مع النظام في الإعلان عن القتلى بالمئات، بتبرير إثيوبي لسياسة تأديب التمرد والإرهاب، وتفسير "أوجاديني" عن أن القتلى إثيوبيون، وأن الحرب أساساً بسبب وجود البترول في الإقليم ومسعى الصين نحو بترول الإقليم إلى حد تواتر الأخبار عن أسرى صينيين في المنطقة هناك! معنى ذلك أن الوضع آمن للحكم الإثيوبي لفترة، ودوره مؤكد في مواجهة الإرهاب في الصومال وعلى أرضه نفسها لتحجيم أي تمرد صومالي جديد أو تحجيم الزحف الصيني المتصاعد. وتطمئن الولاياتالمتحدة للوضع في إثيوبيا في كل حالاته. فما لم يستطع "زيناوي" السيطرة على الموقف، فإن جبهة المعارضة قد أجمعت قواها مؤخراً باجتماعها في واشنطن وإعلان تحالف خمس عشرة منظمة سياسية معارضة (لبعضها مقار في أديس أبابا) تحت شعار المعارضة السلمية لإسقاط نظام الجبهة الحاكمة. وعناصر هذه الجبهة هم مَن واجهوا "زيناوي" في انتخابات 2005، ويستطيعون العودة من واشنطن، إلى مناطق نفوذهم، الأمهرة، والعفر، والأورومو، ليحصدوا انتخابات 2009! الموقف في القرن الأفريقي لا يختلف في ارتباكه عن الموقف في المشرق العربي، لا نعرف فيه حقيقة مطلب الديمقراطية، ولا ماهية وحدود الإرهاب ومصادره· في الصومال: كانت الشكوى قوية من استبداد سلطة "اتحاد المحاكم الإسلامية" التي قد تحمي الإرهابيين، فضلاً عن الإرهاب الكامن في نفوذ بعض زعمائها. ومع ذلك بدا "شكل الحكم الإسلامي" لفترة أكثر "ديمقراطية" من حكم السلطة السابقة، بل ويبدو كذلك عن السلطة التي تتولى الآن بسبب التشوه الذي يلحق بها من كل جانب. لقد بدأت الحكومة الانتقالية بقيادة "عبدالله يوسف أحمد" قابلة لوراثة الحكم الإسلامي على أسس أكثر ديمقراطية، لو أنها لم تستسلم لنفوذ "لوردات الحرب"، ودفعهم لاستدعاء القوات الإثيوبية، وتصديهم لوجود قوات الاتحاد الأفريقي بهدف إفشال مهمته حتى ينفردوا بالسلطة. وأدى ذلك أيضاً لاستبعاد اشتراك القوى التقليدية (العشائرية) نفسها وفي مقدمتها عشائر "الهوية" التي تسيطر على العاصمة. وبينما كان على إثيوبيا أن تنسحب مع وصول طلائع قوات الاتحاد الأفريقي الأوغندية، فإن ذلك لم يحدث لضعف إمكانيات الاتحاد -كما حدث له في دارفور- من ناحية، ولعنف الرفض العشائري نفسه لتسلط الحكومة و"لوردات الحرب" في أجواء عشائرية لا تقبل الاستبداد بهذه الطريقة من ناحية أخرى. ويبدو أن السياسة الأميركية تخطط للانفراد بالصومال وإخضاع أهله مباشرة، ولذا لم ترتح لمعاونة الاتحاد الأفريقي، فأصدر مجلس الأمن قراراً في العشرين من أغسطس2007 بتدخل "القوات الدولية"، بعون أميركي- بريطاني بديلاً لقوات الاتحاد الأفريقي على نحو ما حدث في السودان! ولو أن هناك عزماً على قبول "التطور الديمقراطي" الصحيح، لقبول المجتمع الأفريقي والدولي، باجتماع عشائر "الهوية" مؤخراً في مقديشو لتوحيد كلمتهم (حوالي 1300 ممثل قبلي) تجاه شكل الحكم ونمط التعاون معه لتستقر الصومال. لكن يبدو أن أجواء "السلطة الدولية" التي لم تعاون اجتماعات المتمردين السودانيين في "أروشا" على النجاح، لا تميل إلى قبول نتائج اجتماعات عشائر الصومال بنفس الهدف وهو تحقيق الاستقرار، في السودان أو الصومال. الموقف في القرن الأفريقي إذن لا يختلف في ارتباكه عن الموقف في المشرق العربي، لا نعرف فيه حقيقة مطلب الديمقراطية، ولا ماهية وحدود الإرهاب ومصادره، وبالمثل لا نعرف ما هي النوايا العربية الحقيقية تجاه الديمقراطية... وتجاه الإرهاب!