تعمد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي اختيار الطرق المباشرة، لإيصال جملة من الرسائل السياسية المهمة التي تتعلق بالعديد من الأزمات الدولية، وخصوصا الملف النووي الايراني، والأزمة اللبنانية، والوضع في العراق، وحل القضية الفلسطينية، وذلك في الخطاب الذي وجهه صباح امس في قصر “الأليزيه”، خلال افتتاح المؤتمر السنوي للسفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية الفرنسية في الخارج. يعتبر الخطاب أول نظرة فرنسية متكاملة على صعيد السياسة الخارجية، منذ تولي ساركوزي في السادس عشر من أيار/مايو الماضي، وهو يتصف بالعديد من المزايا” الأولى الوضوح والمباشرة. وقد لوحظ انه اعتمد لغة دبلوماسية جديدة بعيدة تذهب نحو هدفها مباشرة، واعتبر اكثر من مصدر رسمي فرنسي، والعديد من الخبراء الذين حضروا الجلسة واستمعوا للخطاب، انه لم يسبق لمسؤول دولي أن تحدث بهذا الوضوح والصراحة. وقد تفاجأ بعض الخبراء ازاء درجة الصراحة التي حملها الخطاب. والميزة الثانية هي ترك هامش مناورة واضح أمام الدبلوماسية الفرنسية، لذا أبقى على الابواب مفتوحة، ففي مقابل الحزم والصراحة، هناك قدر كبير من الانفتاح والمرونة. والميزة الثالثة هي التنبيه الى ضرورة الوقوف أمام الأخطار والأزمات الدولية. منح ساركوزي اهمية خاصة للوضع في منطقة الشرق الاوسط، ورتب الأزمات الراهنة حسب درجة المخاطر المترتبة عليها، فأعطى للملف النووي الايراني مكانة متقدمة على ما عداه من القضايا الأخرى، ووصفه بأنه يشكل “من دون شك اخطر الأزمات التي يواجهها النظام الدولي”. والملاحظ هنا ان الرئيس الفرنسي وضع هذا الملف على طاولة المساومة، فدعا من جهة الى اعتماد سياسة انفتاح تجاه طهران، في حال احترامها التزاماتها في المجال النووي، ومن جهة ثانية اكد انه من “غير المقبول”، ان تمتلك طهران السلاح النووي. وقال بصراحة ان “امتلاك ايران للسلاح النووي امر غير مقبول بالنسبة لي”. وتوقف عند سياسة الحزم التام المتبعة حاليا، والتي “تجمع بين العقوبات المشددة، ولكن الانفتاح في حال اختيار ايران احترام التزاماتها”، واعتبر ان “هذه هي الخطوة الوحيدة التي تسمح لنا بتجنب البديل الكارثي: القنبلة الايرانية، أو قصف ايران”. وفي تعليق ل”الخليج” على مقاربة الرئيس الفرنسي للملف النووي الايراني، اعتبر الخبير الفرنسي المعروف مدير معهد الشؤون الاستراتيجية فرانسوا هيسبورغ، انها المرة الأولى التي تطرح فيها الأزمة بهذا الوضوح، وهذا دليل على انها وصلت الى مرحلة متقدمة من الخطورة. والملاحظة الثانية ان فرنسا، على خلاف بعض الدول غير قادرة على التعايش مع الكارثة في بعدها الأول وهو قبول امتلاك ايران قنبلة ذرية، وبالتالي هي تقف بوضوح مع الخيار الثاني، وهو قصف ايران في حال استمرت في هذا الطريق. وفي رأي هيسبورغ ان واشنطن يمكن ان تقبل بالخيار الأول، انطلاقا من متاعبها في العراق. ويرى خبير آخر ان باريس في هذه النقطة أقرب إلى موقف تل ابيب منها الى موقف واشنطن. والملاحظة الثالثة هي ان ساركوزي وجه رسالة واضحة تجاه كل من روسيا والصين، ودعاهما الى حسم موقفهما في هذا الصدد. الأزمة الثانية من ناحية الخطورة هي الوضع في لبنان، وقد لوحظ ان الرئيس الفرنسي دعا كل الاطراف الاقليمية، الى تشجيع الحل بالوصول الى مخرج للأزمة، يبدأ من الاعلى: رئيس منتخب ضمن المهلة الدستورية، لكنه رمى المسؤولية كاملة على ظهر سوريا. وقال “اذا سارت دمشق في هذا الطريق، فستتوفر ظروف حوار فرنسي سوري”. وسألت “الخليج” دبلوماسيا فرنسيا سبق له ان عمل لفترة طويلة في لبنان، قبل ان ينتقل الى بلد آخر، حول قراءته لموقع سوريا في الخطاب. فقال ان اللهجة ودية، وخالية من اي استفزاز او تهديد، بل ان ساركوزي لخص الخلافات الفرنسية السورية بالموقف من لبنان. واضاف الدبلوماسي، هنا تكمن المعضلة. ففرنسا تقول ليس هناك محل خلاف سوى لبنان، وسوريا ترد أننا مستعدون للحوار على جميع الملفات باستثناء لبنان. واستبعد هذا الدبلوماسي حصول تقارب في وجهات النظر في الفترة القريبة القادمة. الملف الثالث من حيث درجة الخطورة هو الملف العراقي، ويلاحظ هنا على نحو واضح استعداد فرنسا للانخراط في ايجاد حل للأزمة، وان زيارة كوشنير ليست سوى المقدمة، لذا حمل رسالة استعداد للمشاركة في ايجاد الحل. ويرى دبلوماسي فرنسي يعمل في أحد بلدان الشرق الاوسط، ان رؤية ساركوزي للوضع في العراق مختلفة كليا عن سابقه جاك شيراك الذي اختار موقف المتفرج في السنوات الأخيرة، ولذا فإن خطاب ساركوزي ركز على هذه النقطة “لا يمكن ان نبقى غير مبالين بالتراجيديا العراقية”.