كتبت مهنا الحبيل ذكرت في مقال(حماس القرار التاريخي- الذي نُشر الأسبوع الماضي) بأن أحداث غزة شكلت منعطفاً خطيراً إستراتيجياً في مسيرة القضية الفلسطينية ببعدها الوطني والقومي والإسلامي، فمجرد إطباق حركة حماس على غزة بعد مسيرة تاريخية تداولت رعايتها في توافق نسبي أو كلي القوى الدولية الاستعمارية بقيادة الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي جنباً إلى جنب وفي شراكة تامة مع إسرائيل وباتحاد مع مجمل النظام الرسمي العربي انتهت إلى إعادة بناء حركة فتح وتحديداً في قياداتها ورموزها الرئيسة، وذلك عبر رعاية مبكرة لها انتهت بهدم أي قاعدة انتماء قومي وإسلامي حقيقي وتحييد الخطاب الثوري النضالي ثم تهيئته أو إبقائه خارج صورة التنظيم القائم على الأرض، ومن ثم إسناد القيادة المركزية للحركة إلى طاقم مهيّأ كليّاً إلى الوصول إلى اتفاقية مع هذه القوى المتحالفة تنتهي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وقد كان هذا التصور ماثلاً منذ مسودّات الفكر الأمني لتل أبيب حتى اتفاقية أوسلو، وهو ما أثبته التنكيل بالرئيس الراحل عرفات حين حاول في نهاية المشوار أن يوقف عجلة هذه التنازلات بعد أن تبين له أن أوسلو لم تصنع أي استقلال فعلي يرسخ على الأرض إنما كانت جسراً لتحقيق ما هو أسوأ بكثير مما تصوره، ومنذ ذلك الحين حققت تل أبيب وواشنطن استقطاباً منظماً ونوعياً للمحيطين به ضمن أن تحل هذه القيادات والشخصيات التي اختارها الإسرائيليون جيداً في قيادة المنظمة والسلطة وحركة فتح. وتمّ تطويق العناصر الحيّة من الحركة وإحباط طموحها تدريجيّاً وعزلها عن الواقع الميداني إذا تمردت ولم يتم استيعابها في حركة المدافعة الحزبية الموجهة لحماس أو حركة الاستقطاب المالية والمعززة بمناصب وظيفية شكّلها محمود عباس وتياره تضمن لهذه القواعد المجيرة الرصيد المادي الذي يبقيهم خارج دائرة الحصار الاقتصادي على شرط توحدهم واستجابتهم لخط التوجيه الرئيس لقيادة أوسلو، وإلاّ فسوف يُعرضون أنفسهم لكشف ظهورهم وقطع امتيازاتهم أو تهميشهم كلياً خاصة داخل جغرافية أوسلو أي الضفة أو قطاع غزة. وكانت الحركة في الأصل تعرضت للعديد من الانشقاقات والحروب الداخلية داخل التنظيم أو مع باقي الفصائل التي كانت تخضع في حينها إلى مرحلة الحرب الباردة لمصلحة أطراف متصارعة من النظام الرسمي العربي أشعل حروباً داخل المجتمعات الفلسطينية ذهب ضحاياها آلاف من أبناء فلسطين قتلاً وتشريداً. وشكلت تلك المرحلة بيئة مناسبة لدخول الإسرائيليين مباشرة في عملية توعية أمنية داخل حركة فتح باختراقها خاصة مع تشرذم الحركة بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان إثر توريطها في الحرب الأهلية اللبنانية ثم مواجهتها المباشرة مع الجيش الإسرائيلي وتضييق الخناق عليها بعد عزل الحركة الوطنية اللبنانية داخليّاً وبعثرتها وبقي الفصل الأخير حصار المقاومة الفلسطينية ثم إخراجها وإسدال الستار الدامي بمذابح صبرا وشاتيلا على يد تل أبيب وأعوانها. هذه اللحظة التاريخية الدامية والانكسار السياسي التاريخي لفتح بدأت فيها تل أبيب و واشنطن وأطراف من النظام الرسمي العربي عملية إعادة البناء وكون الحركة كان يغلب عليها بوضوح الخط العلماني المتطرف، وبالتالي غياب الممانعة الإسلامية فقد برز العمق القومي العربي والنضال الثوري ضد الإمبريالية الأمريكية كخصم لهذا التوجه، هذه القوى التي كانت تعتبر بأن المشروع الصهيوني في أرض فلسطين بالإضافة إلى كونه استهداف للوطن العربي ووضع قدم في عمقه فقد كان ركيزة ومشهداً ظاهراً وبارزاً للإمبريالية الدولية وأطماعها التاريخية في بسط الهيمنة الكلية التي أصبحت نافذة فيما بعد على المنطقة العربية في انسجام مع النظام الرسمي العربي. ولذا قررت تل أبيب تصفية هذه الخلفية عبر استهداف رموزها التاريخية وتدجين الصفوف الأخرى أو إخراجها كليّاً من واقع القضية الفلسطينية، ومن هنا صُفّي خليل الوزير أبو جهاد وصلاح خلف أبو إياد ومن ثم متابعة المشهد السياسي والحركي بدقة داخل التنظيم الفتحاوي لتحقيق هذه المعادلة. ولكن حاجة هذا المشروع إلى واجهة تاريخية لها حضور وطني وعربي في الساحة الفلسطينية دفع الحلفاء إلى الإبقاء على الرئيس أبو عمّار على الرغم من معرفتهم بأنه لن يقبل حين يتضح له نهاية المسار السياسي الذي تُدفع له منظمة التحرير، فتبرز روحه الثورية الوطنية ولكن المصلحة المقدرة لديهم بإبقاء الرئيس عرفات كانت ضرورة لعدة أسباب رئيسة: الأولى: التوقيع على مشروع أوسلو كان يحتاج إلى هذه الشخصية التي يندفع خلفها الفريق الفاقد للشرعية التاريخية في فتح والمشارك الرئيس مع تل أبيب وواشنطن حتى يُسَوّق المشروع فلسطينياً. ثانياً: حاجة النظام الرسمي العربي الذي كان مندفعاً إلى التخلص من عبء القضية الفلسطينية وخاصة عبر عمقها القومي الإسلامي إلى مسوّغ قوي أمام شعوبه كي يستجيب للطلب الأمريكي الأوروبي المكثف بدعم هذا المشروع وتصفية القضية الفلسطينية، وعذره أن من يقود هذه المسيرة شخصية قيادية تاريخية كأبي عمّار وفعلاً تحقق هذا الأمر. الجانب الثالث المهم: هو خشية هذا التحالف من يقظة مفاجئة للرئيس أبو عمّار سواء إدراكه لحركة انهيار القضية التدريجي، وبالتالي الوقوف في منتصف الطريق أو اكتشافه لقوة وحجم الاختراق الإسرائيلي للقيادات المحيطة به، وهو ما يمكن التدليل عليه بوضوح حين خاطب دحلان قائلاً له: "بأني أعلم أن إسرائيل تمون عليك أكثر مني". ولكن يقظة أبو عمار كانت متأخرة جدا وكانت تل أبيب قد انتهت من إعادة رسم الخريطة الحركية لفتح ولقيادة أوسلو، وحين التفت في نهاية المطاف لم يجد بديلاً منقذاً بعد أن أُحرقت كل سفن فتح فبادر إلى الثورة على المسيرة الكارثية لأوسلو، فقررت تل أبيب تصفيته حصاراً أو تسميماً رحمه الله ولعل حالة الفوضى والبيروقراطية مع مركزية القرار لدى أبو عمار ساعد تل أبيب وواشنطن في أن تنفرد هذه القيادات بوضع الحركة مباشرة بعد غيابه وتأمين مقاعدها القيادية بعد أن عُزلت حركة الصعود التنظيمي عن إطار الولاء للقضية وأصبح الدفع بهم إلى الواجهة وإلى المواقع الحزبية رهناً بالفريق الذي بناه التحالف الإسرائيلي الأمريكي مع النظام الرسمي العربي. ومع بدء تولي أبو مازن للمسؤولية في الحركة وفي قيادة مشروع أوسلو عززت قوى التحالف عملية الإغراق المادي لتلك الجهات والشخصيات متزامناً مع الحصار على الشعب الفلسطيني فأوجدت أجواء خطيرة لواقع الميدان ومختلفة كليّاً مع أي مبدأ أولي للاستقلال السياسي والأمني على وجه الخصوص. فيتضح لنا من العرض السابق بأن العنصرين الأساسيين اللذين أُعيد بهما بناء فريق فتح الجديد و قيادة أوسلو ترسيخ مفاهيم العلمانية العقائدية المتطرفة المندفعة لمشروع التحالف، وتصفية أي معارض لها أو متحفظ عليها من عمق إسلامي أو قومي أو ثوري نضالي، وجعل أساس المنطلق هو الحصول على قطعة أرض بلا سيادة حقيقية مع فرصة للتداول المعيشي المرفّه الذي بقي في دائرة هذه السلطة والمحيطين بها. والعنصر الثاني هو إغراق الواقع الفلسطيني بمساحة من الفساد تتولد من القيادة إلى العناصر الصغيرة وهكذا. (2) حماس الكمون الإستراتيجي ..! في نفس هذه المرحلة و على الرغم من تعرُّض حركة حماس لدعوات مباشرة لاستباحه دمها منذ أول أيام دخول السلطة في أحداث حي الشيخ رضوان وإطلاق النار على مناضلي الحركة في المسجد مما أوقعَ عدداً من القتلى والجرحى، إلاّ أنَّ الحركة احتوت الموقف وصبرت، وركزت نضالها على التزام خلقي رفيع بمسؤولية الإنسان والمقاومة، واستمرت عليه جعلَ منها الرديف الطبيعي للفقراء ومتوسطي الدخل والمعوزين وشريكه عبر أبنائها القياديين والمناضلين من نفس هذه الأوساط يولدون فكرياً، وفي نفس الوقت ركزت على المواجهه العسكرية النوعية مع الاحتلال الصهيوني، وأفرزت عبر برنامجها المقاوم بالشراكة مع فصائل المقاومة لأول مرة مبدأ توازن الرعب. وكثفت البرنامج الثقافي الفكري الذي يُعزز الانتماء للبعد العربي الإسلامي والنضال الثوري للتحرير، وأعادت جمع أبناء الشعب الفلسطيني على مفاهيم التحرر لوطني حتى أصبحت في صدارة الميدان السياسي والعسكري شعبياً في فلسطين وفي باقي أرجاء الوطن العربي. واستطاعت حماس وعبر تضحيات جسيمة وتجربة صعبة من صيانة استقلال البندقية المقاومة لها، فلم تسمحْ لأي طرف حليف أو مناهض بأن يستأجر بندقيتها وفَصَلَت الحراك السياسي الضروري والتعامل مع الفرقاء الإقليميين والدوليين بحسب موازين تحقيق مصالح الشعب وفقاً لرؤيته وائتمانه الإسلامي والقومي والذي أقصي أو كاد خلال سنوات الضياع منذ أن خرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان مروراً بإعادة بناء حركة فتح بحسب البرنامج الذي ذكرناه. هذا الصمود التدريجي للحركة جعلَ حماس وكأنها تبدو للمراقبين بأنها جسم الشعب الرئيس، وحركته الدافعة والدافقة، وقراره الوطني المستقل مما أقلق كل أطراف هذا التحالف "إسرائيل وواشنطن والاتحاد الأوروبي و مجمل النظام الرسمي العربي"؛ لأن هذا البناء الحمساوي يقوم على أساسين مناقضين لركيزة بناء فتح أوسلوالجديدة الانتماء الأممي الإسلامي والعربي والطهارة الثورية وسلامة الذمة المالية وحينَ نعرض لهذا الواقع فلنا شواهد وأدلة عديدة أبرزها على الإطلاق اكتساح حماس لانتخابات المجلس التشريعي. هذا الصمود على الأرض والوجود الميداني النوعي في المقاومة اضطر هذا التحالف إلى قبول الانتخابات وأن يُدشن عملية الانتخابات التشريعية على أمل أن تُستوعب الحركة تدريجياً إلى المشروع السياسي ومن ثمَّ تُضرب وتُصفى، ولكن هذا القياس حسب المصادر الإسرائيلية الأمريكية والفتحاوية كان يقوم على أن فتح ستحقق الغالبية ولو النسبية، وستفرض على حماس البقاء في المعارضة السياسية و تطويقها بالقرارات السياسية بحجة القبول بقرار الأكثرية الفتحاوية ومواجهتها عند رفض أي من هذه القرارات، فيما كانت حماس تُدرك جيداً هذه اللعبة، وكانت حساباتها تؤكد تفوقها على الرغم من أنها لم تتوقَّع نسبة التأييد لها والتي بلغتْ 76% من الأصوات. ومنذُ خرجتْ هذه النتيجة فُجعَ هذا التحالفُ بها، واضطربَ موقفهُ بشدّة، وبُدئتْ سلسلة من المناورات والحصار فشلتْ كلها؛ إذ كانت إستراتيجية حماس تركز على الدخول في العملية السياسية لإحباطْ المشاريع الميدانية من التحكم في تطويقها وإبقاء خطها الميداني والسياسي في حراك مستمر مع الحفاظ على قاعدة المقاومة ومبادئ التحرر الوطني، وكانت تُعلِن أن مشاركتها كانت على أساس خيار الشعب وليس من خلال سقف أوسلو باعتبار أن أي خيار ديموقراطي بالتصويت سوف يُفرز تعبيراً شعبياً تاريخياً لمشروعية وجود الحركة وحجمه ويُلغي ابتداءً أي محاولة لأي طرف من هذه الأطراف المعادية من الاحتجاج عليها من خلال أصوات الشعب والصندوق الديمقراطي. ولذا وبعدَ أنْ شعرَ هذا التحالف بهذا الخطر الذي باتَ يُهدد كل مساعيه التي بذلها في إعادة بناء وتوجيه حركة فتح لتحقيق مشروع أوسلو، وأن حماس تجاوزتْ بقوة ووضوح القدرات والأساس الأيدلوجي والوضع الممانع لحركة فتح في أوج قوتها، فلم يعد هناك بديل عن المواجهة الميدانية بعدَ أن يتمّ إيجاد أرضية عسكرية لمواجهة حماس على الأرض. ومن خلال سيلٍ من المعلومات التي نُشرتْ قبلَ وبعد أحداثِ غزَّة يتبين مستوى وحجم صفقات التسلّح لهذا الفصيل الذي يقوم بعملية المواجهة العسكرية مع وجود تردد لدى الأوساط الإسرائيلية وشكوك في قدرته على مواجهة حماس، ولكنْ تمَّ الدفعُ به بصفته الخيارَ الأخير لإنقاذ مشروع تل أبيب ولإنقاذ فريقها الخاص. ومعَ بدء الأعمال العسكرية القمعية المتعددة أدركتْ حماس بوصلة المشروع وضريبة الصمت عليه أو تركه يتقدم فيشعل الحرب الأهلية ويهيئ الأوضاع للتحالف من جديد بتصفية القضية فأعطتْ لجناحها العسكري حقَّ القرار والمواجهة، وخلال أيامٍ معدودة انهارَ المشروع الأمنيْ السري للرئيس، وانهارَ معه تنظيمه في غزة، ولكن في مشهد تاريخي دراماتيكي كشف هزاله الولاء لدى القيادات، وحرصها على تأمين سلامتها الشخصية، وترك الجنود المستوعبين في مشروعهم الأمني تحت رحمة الأحداث بعد أن أطلقوا أيديهم في حملة قتل واعتقال واستفزاز لحركة حماس. وبغض النظر عما صاحبَ مثلَ هذه الحسم لمشروع الردع لكتائب القسام من أخطاء من الطبيعي أن تصدرَ في مثل هذه الأوضاع فقد كان اقتحام المعقل الأول للأمن الوقائي، وما أعقبَ حسم المعركة في غزة من أعمال قمعية تجاوزت كلَّ تصور إنساني من قيم العدل والمروءة سواء تلك التي كشف عنها النقاب من جثامين شهداء القسام الذين دُفنوا في الأمن الوقائي بعد تصفيتهم أو الهجوم الشامل على مؤسسات ومنازل وأفراد وقيادات حماس في الضفة إضافة للملفات الأمنية الخطيرة، فهي صورة تبين حجم التوظيف الإسرائيلي للأمن الوقائي في مواجهة حماس بل وحتى فصائل المقاومة الأخرى. لكنْ ما يهمُّني هنا وقد وصلتُ إلى الفصل الأخير في هذا المقال هذا الربط بينَ انهيار هذا المشروع في غزَّة وما يشبه إعلان الحرب العالمية الكبرى على حماس، والإعداد لمعركة الفلوجة الثانية في غزة، وليستْ القضية توحد الرئيس عباس وفريقه واندماجه الكلي معَ المشروع الإسرائيلي الأمريكي وحسبْ، ولكنَّ هذا الانهيار تسبب في حدوث زلازلَ لا تزالُ تُهيجُ في الوطن العربي ... لماذا..؟! هذا هو الجواب الدقيق والحساس: لقد أسس الإعلام الدولي والعربي المعاصر بتدخل مباشر من الولاياتالمتحدةالأمريكية التعاطيْ مع هذه القضية المركزية في المواجهة بينَ الأمة العربية الإسلامية وبينَ الغرب الإمبريالي وإسرائيل على مفهوم واحد ليس منذ انطلاقة مدريد وحسب بلْ من قرابة الثلاثة عقود هذا المفهوم المبدئي يكرس القبول المبدئي بإسرائيل وجوداً وكياناً مؤثراً بل ومرتبطاً بالحركة السياسية العربية وسلامة وبقاء النظام الرسمي العربي، و على الرغم من تركيز هذا المفهوم عبرَ استقطاب مكثف لحركة الثقافة والنخبة العربية، والتي حتى وإن أبدت معارضتها لأوسلو وتأييدها للمقاومة ولحركة المقاومة الإسلامية "حماس" إلاّ أن إسقاط هذا الخيار نهائياً من الساحة الميدانية في غزة واحتمال تواصله إلى الضفة الغربية يفرض حقيقة خطيرة على هذا البناء الثقافي العربي الذي وإن شتمَ الأمريكيين طويلاً إلاّ أن صدمة وصول حركة تحرر وطني حقيقية إلى هذه المرحلة بمرجعيتها الإسلامية حتى ولو آمنتْ بالديمقراطية الإسلامية التي تنطلقُ من القطعيات كأساس وتوسع مفهوم الحقوق المدنية والحريات بحسب الفقه الدستوري الإسلامي. و على الرغم من أن حماس من أكثر الحركات الفكرية والتجارب السياسية قرباً من الاعتدال الذي تنشدهُ هذه النخب لبناء مجتمع فاعلٍ حر في أجوائه السياسية ولكنْ مؤمن بمفاهيمه الدستورية الإسلامية، ويُعيد الارتباط بالوحدة الحضارية للفكر الإسلامي المؤسس على العدل الراشدي ومع كل الحوارات والمفاهيم المشتركة للوعي الإسلامي والنخبة العربية إلا أن أحداث غزة كشف أزمة أخلاقية وانتمائية عنيفة حين سمعنا لعبارات الهجوم الحاد على حماس من البعض. وهذا الحدث قد انزلقَت فيه أسماء وشخصيات كبيرة تبين حجم تأثير المسيرة الإعلامية للنظام الرسمي العربي عليها وانطلقتْ بكل قوة لتعبِّر عن معارضتها لحماس بل وتكادُ تزكي ضمنياً أو مباشرةً الحرب العالمية التي تُعدُّ الآن على قطاع غزَّة. وأحسبُ أن تعبير شخصية عربية ثقافية مرموقة عن هذا الفزع والوجل والهزيمة كالدكتور عزمي بشارة عنْ هذا الواقع الذي أفرزتهُ الأحداث يُشكل وثيقةً تاريخية لحالة الهزيمة للثقافة العربية المعاصرة. إن تعبير د عزميْ منتقداً بروز هذه المفاهيم لدى الأوساط العربية ( بأن العلمانيين "العقائديين" باتوا في صف واحد مع تل أبيب وواشنطن وكذلك للمشروعية التي يسبغها البعض لاندماج فريق أوسلو رسمياً مع الكيان الصهيوني لمواجهة حماس) فهي حالة اضطراب تجاوزتْ أسماء كنا نعزلها عن مثقفي المارينز فإذا بنا نراهم مصطفين في موقع واحد مع تل أبيب، وهو ما يبين حجمَ هذه الكارثة وحجمَ هذا الزلزال الذي أصابَ الغرب، وانعكس على العرب ليس من أحداث غزة، ولكن من القدسية المزيفة التي بُنيتْ طوال الوقت لأركان مشروع السلام الكاذب وحجم اختراق هذا المشروع لحالة الإعلام العربي. والذي نأمله أن تكون تلك التعبيرات حالة عاطفية غيرَ راشدة مرَّ بها البعض، وأنهمْ حينَ تهدأُ الخواطر ويتأملونَ المشهدَ جيداً يفيقونَ على الحقيقة قبلَ أن تكونَ كلماتهمْ ومنابرهم الإعلامية قنابلَ عنقودية تشارك تل أبيب وواشنطن والنظام الرسمي العربي حربَهُ التاريخية على الشعب في غزَّة وحينها سيكونون قطعاً... شركاءَ تاريخيين في الجريمة بل وفي طليعة الموساد وليس المارينز وحسب.