من مفارقات القدر.. أن نعود للحديث عن تجديد الخطاب الديني بعد مائة سنة ويزيد من وفاة رائد التجديد والتطوير في الخطاب والفكر الديني الشيخ محمد عبده أول مفت للديار المصرية.. وكأن الرجل ومن تبعه من رموز دينية وفكرية كانوا يصرخون في الهواء.. ويخوضون معركة انتصر في نهايتها غلاة التطرف الديني والفكري وعتاة الإرهاب.. إرهاب يهدد الوجود البشري بمعناه الإنساني العام.. وفي أبسط حالاته يدمر عقول أمة.. لسنا المسئولين عن هذه الظاهرة.. ولكنه العالم أجمع خاصة الأمم الأقوى فيه، التي لا تشعر بوجوده إلا إذا اكتوت بناره.. دون ذلك يتغافلونه مادام بعيداً عنهم.. ويتوهمون أنهم يتلاعبون به.. أو مادام يؤدي دوراً يحقق لهم أطماعهم الاقتصادية وطموحاتهم السياسية في مناطق العالم.. ولنسأل الأمريكان والفرنسيين والبريطانيين.. ماذا قدموا من دعم لأمثال هؤلاء المتطرفين والإرهابيين.. بالمأوى.. والدفاع عنهم بشعارات مللنا من تكرارها. ما المقصود بالخطاب الديني؟.. عنوان.. قرأنا معاركه في التاريخ البعيد والقريب.. وعشنا عصوره طوال الخمسين عاماً الماضية.. ولا جديد.. تقع الواقعة.. تصدر تصريحات وبيانات وإدانات.. تنعقد ندوات ومؤتمرات.. ونملأ أرفف مكتبات الجامعات بالرسائل العلمية.. ويشحذ البعض أقلامهم في مؤلفات.. والكل يطالب بتطوير الخطاب الديني.. وتجديد الفكر الإسلامي لمواجهة التطرف.. ومواكبة العصر في مناحي حياتنا المختلفة.. وفي المقابل.. استمرار حالة التدهور.. وتدني الحوار.. وعنف الدعوة.. والتطرف والغلو حتى تاهت الناس.. وضلت القلوب.. وتشتت العقول.. والنتيجة.. إما إرهابي يقتل باسم الإسلام وإعلاء الدعوة.. وإما ملحد.. ينكر كل الأديان برمتها. ليس المستهدف إذن من الخطاب الديني.. المجموعة المارقة من الإرهابيين.. دعاة تكفير سواهم.. أو إخضاع من يستمع إليهم بقوة السيف.. وليس المستهدف أيضاً النخبة العلمية والفكرية.. الذين احتكروا هم الآخرون الموعظة لنا في كل مناحي الحياة بما فيها الدين.. وليسوا أيضاً رجال الدين أصحاب الفتوي والدعوة.. وبالتأكيد ليسوا هؤلاء المتطرفين الكثر بيننا وجاءوا من كل فج عميق وأطلقوا على أنفسهم مسميات ما أنزل الله بها من سلطان.. وكونوا جمعيات وجماعات.. و"كمان" أحزاب سياسية.. كل هؤلاء.. جهد تصحيح المفاهيم الدينية لديهم.. أو تصحيح خطابهم الديني يجعلنا كمن نحرث في الماء.. هم لا يحتاجون ثورة دينية بقدر حاجتهم لمواجهة حاسمة بالقانون. نحن إذن نعيش ضرورة.. لإنقاذ مستقبل أمة.. من الأطفال والشباب وعامة الناس.. هؤلاء هم المستهدفون من الخطاب الديني المستنير.. الذي أصبح من الشعارات المكررة.. التي لا يفهمها الكثيرون وكأنها لوغاريتمات رياضية. عقب الصلاة.. اقترب بهدوء وابتسامة رجل أوشك على السبعين.. قال: من 50 سنة.. أسمع ناس تقول تطوير وتجديد الخطاب الديني.. يعني إيه.. دي حاجة غير اننا نصلي ونصوم.. ونلتزم بكل العبادات وقواعد الفقه.. ونراعي ربنا ونعامل الناس بالحسنى.. ونربي أولادنا على العمل بقرآن ربنا وسنة نبينا محمد.. ونلتزم بما أمرنا الله به من أمانة وإخلاص وضمير وأخلاق وإتقان العمل.. إيه الحكاية يا ناس.. الصح.. صح.. والغلط غلط.. والرسول هدي الكفار بالدعوة الحسنة.. ولاأنتم تقصدوا بالخطاب الديني تردوا على داعش قتلة البشر.. ولا المتطرفين الذين يفتون ويقولون.. حرام السلام وتهنئة المسيحيين.. ياناس عيب.. "مالناش" دعوة بهؤلاء.. ولن يقدر على هدايتهم أحد.. ولاأنتم نسيتم اننا بلد الأزهر الذي علم الدنيا.. يا ناس احنا عاوزين سلوك وفعل يصحح المفاهيم ويطمن الشعب والدنيا.. اننا صح.. مثلاً.. مثلاً.. زيارة الرئيس السيسي للكاتدرائية.. وتهنئة الأخوة الأقباط بعيدهم.. مش قدوة لينا.. وده راجل متدين صحيح. بالله عليكم.. بماذا نجيب مثل هذا الرجل الطيب.. أو بمعنى أصح.. بماذا يرد عليه مولانا الفاضل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر.. وكيف يحدث تطويراً جاداً في الخطاب الديني بما يستوعبه الناس.. بديهيات الثورة في الخطاب الديني.. تصحيح المفاهيم المغلوطة لدى رجال الدين أنفسهم.. كل واحد منهم "المعتدلين الأزهريين".. ينهل من أين شاء مصدراً لمعلوماته.. الكثير منها خطأ.. والقليل صحيح.. وجميعهم يتحدثون باسم كتاب الله وسنة نبيه.. وكل له مشربه وقناعاته.. وهذا ما يصبه في عقول الناس.. أما إذا تحدثنا عن أدعياء الدين الآخرين فحدث ولا حرج.. والكارثة عندما يجمع شملهم تيارات.. وجمعيات.. وجماعات.. وكل جماعة يتفرع عنها جماعات حتى بلغ الأمر.. لجماعات الجهاديين والتكفيريين.. أيا كان مسماهم.. كل حالة تقول "أنا الإسلام.. والإسلام أنا".. وجميعهم الدعوة الإسلامية بريئة منهم.. "ولا تقول الإسلام بريء منهم.. حتى لا تتهم بتكفير الآخرين" مثلما هم يفعلون. من المسئول عما وصل إليه حال الدعوة الإسلامية والخطاب الديني.. وتشويه الإسلام والمسلمين.. وحشو أدمغة أبنائنا بالتعصب والعنف والعداء للآخر. نحن نريد حالة استنفار حقيقية.. جادة.. دؤوبة.. مستمرة.. مخلصة لوجه الله.. لإنقاذ الوطن وحماية مستقبله.. من تطرف أعمى.. وإرهاب أسود.. وثقافة دينية ضحلة.. وثقافة عامة مخلة ومخجلة.. نريد أجيالا واعية.. صالحة.. قوية.. أمينة.. قويمة الشخصية نفسيا وثقافيا ودينيا.. للتصالح مع النفس.. والقبول بالغير.. هل هناك شيء آخر نريده من الخطاب الديني.. هذه ليست مهمة تقوم بها حفنة من العلماء.. قليل منهم مستنير.. سيلفظونه.. البعض منهم مجتهد سيهاجمونه.. والكثير منهم.. جامد ثابت.. دون اجتهاد منه في مراجعة مفاهيمه. لا تدفنوا الرؤوس في الرمال.. المجتمع في محنة.. والمتحدثون بالدين على اختلاف فرقهم وشيعهم ومذاهبهم.. هم سببها.. لابد من الاتفاق على كلمة سواء.. لكل المفاهيم الدينية التي تسود حياتنا.. نريد إجماعا على الصحيح.. قولوه وادعوا به وافعلوه.. واجماعا على خطأ.. اجتنبوه.. وارفضوه.. وواجهوه.. وهذا طريق ثالث لمن يستفتي قلبه.. وسوى ذلك مرفوض.. ومجرم من يدعو به.. نقوا مناهجكم التعليمية.. والدينية.. وأولها منهج المدارس والجامعات الأزهرية.. ألغوا مدارس الجمعيات الدينية نهائيا.. كفانا فشل حكاية الإشراف عليها.. يقدمون منهجا.. ويشرحون غيره.. ويعلمون التلاميذ ما هو الأسوأ.. وحدوا المنابر الإعلامية العاملة في الدعوة الدينية.. صححوا المفاهيم الخاطئة والمغلوطة.. المخالفة لكل منطق وعقل وعلم وتطور.. وتسهم في التكوين الخاطئ للطفل والشاب.. وكله باسم الدين.. امنعوا صعود أي شخص على المنبر.. غير دعاة الأزهر والأوقاف.. حكاية رخصة الدورات التدريبية.. نصب وضحك على أنفسكم وعلى الناس.. وضعف في المواجهة الجادة الصادقة.. أين هو الأزهر.. مجامع العلماء.. دار الافتاء.. وزارة الأوقاف.. وزارات التربية والتعليم والشباب والجامعات.. أين كل هؤلاء.. كلهم متهمون في تكوين الشخصية المصرية الممسوخة.. التي يسهل التأثير عليها أو تلويث عقلها.. في عصر.. تتكالب فيه المناحي على عقل وقلب كل منا.. هذا يريده متطرفا.. لإعداده مشروع إرهابي.. وهذا يريده ملحداً لقلب ناموس الحياة الطبيعي لسماحة واستقرار وهدوء المجتمع.. وهذا يريده فقيراً معدما جاهلاً.. ليفقد حبه وانتماءه لبلده.. وليفقد الإيمان بالوطن والدفاع عنه أو المساس به. الثورة الدينية التي يطالب بها الرئيس عبدالفتاح السيسي.. نعم.. هي أساس الإصلاح الكامل للمجتمع.. والنية الأساسية لتحقيق أي تقدم اقتصادي وتنموي واجتماعي.. وأي حياة سياسية صحيحة.. وحرية وديمقراطية راسخة للبناء.. لا للهدم.. ولكن كيف؟.. ومن يقوم بها؟.. حقا وفعلا.. وبالجهد والعرق والصبر.. والإيمان بالله.. والثقة في الشعب.. مثلما حال رئيس الأمة المصرية.. نحتاج لمجلس أو لجنة.. أي مسمى.. لا حياة لها ليل نار.. غير العمل والإنجاز.. وسؤالها الدائم.. ماذا حققنا في تطور فكر الناس.. وتعديل منهج عقول وقلوب الخاطئ منهم؟.. وماذا وضعنا من خطوات لبناء إنسان مصري جديد سليم؟.. دون تذرع بحجج.. المصري السليم هو الذي سيحقق نهضة حقيقية وشاملة لبلده.. إنه المشروع الأسمى والأكبر.. هذه النخبة في المجلس أو اللجنة.. مهمتها. مثلما هو الحال في مشروع قناة السويس الجديدة.. معدلات الإنجاز ساعة بساعة ويوما بيوم دون كلل أو ملل.. ويتوارث هذه المجموعة من ينضمون إليها مجدداً.. عملهم سوف يستغرق سنوات.. ولكن الأمل أن يصبح المصري بعد عشر سنوات إنسانا جديدا صحيح الدين.. ذا مقومات لهويته وشخصيته التي أبهرت العالم.. قبل سنوات انتكاسة. إذا لم نفق اليوم.. سيعود الحديث مرة أخرى بعد مائة عام.. فارضاً نفسه على أحفاد الأحفاد.. في عصور لا يعلمها إلا الله.. وماذا سيكون حالهم.. ما بين المتطرفين والإرهابيين "برخصة الإسلام".. وما بين لوثة الذهول العلمي حينها. هذا إذا تأخر قيام الساعة. نقلا عن جريدة أخبار اليوم