تقوم النظم السياسية في العالم كله من الناحية القانونية علي السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية. قد تختلف الأوزان بينها, وقد تجور واحدة علي الأخري, وقد يجري الفصل أو الخلط بينها, ولكنها ثلاث وظائف تحتاجها المجتمعات لتنظيم أمورها في الشكل والمضمون. ولكن الوجه السياسي للنظام لا يظهر دون تلك العلاقة الديناميكية بين الحكومة والمعارضة, وما بين حزب الأغلبية وأحزاب الأقلية, وهي علاقة تأخذ أشكالا من التحالف أحيانا, وخصاما في أحيان أخري, وربما شابها التوتر في أوقات خلافا علي سياسات كبري, أو التعاون والتأييد عندما تتعرض المصالح الوطنية الكبري للخطر. ومثل هذه العلاقة لها ساحات متعددة, قد يكون البرلمان واحدا منها, ولكن المجتمع المدني والإعلام بات الآن مجالا ممتدا لممارسة أشكال مختلفة من العمل السياسي. وفي الدول التي تسعي إلي تحقيق مستويات عالية من الصحة السياسية, كما هي الحال عند السعي للصحة الاقتصادية فإن صحة وحيوية المعارضة هي جزء مهم من صحة وحيوية النظام السياسي كله. وخلال الفترة القصيرة الماضية تعرض الحزب الوطني الديمقراطي صاحب الأغلبية والحكم لحملات منظمة من الأحزاب المختلفة وجماعات في المجتمع المدني, وأجهزة إعلامية فائرة مصرية وعربية, حتي دخل الساحة صحف ومراكز بحوث وجمعيات واتحادات أمريكية وأوروبية للتقييم والتنديد والشجب, وقامت الصحف والإذاعات المصرية المختلفة بترجمتها وإذاعتها بإخلاص باعتبارها شهادات خارجية معتبرة علي ما آلت إليه الأحوال في مصر. وبالطبع لم يكن الحزب الوطني الديمقراطي ساكنا, بل إنه رد علي ما وجه إليه بالحجج والوقائع كان آخرها ما نشره المهندس أحمد عز أمين تنظيم الحزب في الأهرام لعل الحقيقة تظهر لمن لا يراها. علي أي الأحوال دخل الحزب الوطني الديمقراطي إلي دائرة التقييم والتقدير والمدح والذم; ولكن أحزاب المعارضة المصرية بقيت خارج دائرة النظر في داخل مصر وخارجها رغم أن ما جري لها وبها خلال الفترة القصيرة الماضية كان حريا أن يخرج من دائرة الخبر إلي عالم التحليل والتقدير. فهذه الأحزاب بلا استثناء راحت تلقي علي الحزب الوطني الديمقراطي والجمهور المصري دروسا كثيفة في الديمقراطية الحقة( الحزب الناصري انفرد بإعطاء الدروس في الوطنية والتحذير من المساس بالتراث الوطني المصري الذي يقف الحزب حارسا علي أبوابه), ومحاضرات وتعنيفات حول نقاء العمل السياسي وضرورة النزاهة والعفة فيه; بل إن كثرة منها ألقت بكل الإنجازات المصرية في البحرين الأحمر والأبيض معلنة أن ما تعيشه مصر يعبر عن أسوأ العصور التي عرفتها المحروسة منذ أن وحد الملك مينا القطرين البحري والقبلي مكونا أقدم وأعرق دولة في التاريخ. ومن يسمع ذلك فسوف يتصور أنه علي الجانب الآخر من التل المصري سوف يجد مجموعة من الملائكة التي امتلكت ناصية الحرية والليبرالية والاشتراكية والعقلانية والروحانية في أنقي صورها وأصفاها. وأن هذه الأحزاب بعد ما جري في الانتخابات, وبعد ما وجهته من انتقادات حارة ولاذعة للحزب الوطني الديمقراطي سوف تجلس مع نفسها وتبحث عن أسباب الفشل الذاتية, وعما إذا كانت هناك عناصر داخل بنيانها تتمتع بالخلل والضعف, أم أن طريقة إدارتها للحملة الانتخابية كانت في جوهرها مظهرية وبلا قدرات حقيقية تحتاج إلي بناء صبور. لم يجر أي من ذلك, وخرجت الأحزاب السياسية من المعركة الانتخابية كالشعرة من العجين, ديمقراطية وليبرالية ولديها اليقين بأن المعصية والخطيئة جرت في جهات أخري. حتي جماعة الإخوان المسلمين المحظورة تنظيما والمنادية بدولة دينية منافية للدستور أصبحت ديمقراطية هي الأخري, وخرج من جعبتها كل فلاسفة العقد الاجتماعي حتي بات مونتسكيو من فقهاء دولة الخلافة. ولكن الغطاء انكشف فجأة عن أكبر المهازل السياسية حيث لم تظهر علي أي منها فاعلية انتخابية تذكر, ولكن إذا بها تدخل في داخلها إلي نفق خلافات دامية تقام فيها المتاريس والحراس, والحجج القانونية, وتطير فيها الاتهامات ذات اليمين واليسار, حتي باتت مقابلة مسئول لأمريكي كافيا للاتهام بعمالة للإمبريالية; هكذا مرة واحدة. فبعد أن فشل الحزب الناصري في الحصول علي أي مقعد في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة, تصاعدت حدة الخلافات داخله حيث انقسم إلي جبهتين: الأولي يقودها النائب الأول لرئيس الحزب سامح عاشور, والثانية يتزعمها أمينه العام أحمد حسن. حيث سارعت كل جبهة إلي توجيه الاتهام إلي الأخري بالمسئولية عن ما يعاني منه الحزب من مشكلات, فضلا عن عقد اجتماعات وإصدار قرارات مضادة للجبهة الأخري. ونتيجة هذا الانقسام ظهرت جماعة الخروج علي الانضباط الحزبي, أمام جماعة أخري كانت هي الخارجة عن الالتزام الحزبي. كذلك صعدت النتائج التي حققها حزب التجمع في الانتخابات من الانشقاقات الداخلية التي يعاني منها, حيث استندت الجبهة التي عارضت المشاركة في انتخابات جولة الإعادة إلي هذه النتائج للإشارة إلي أن الحاجة باتت ملحة لإجراء عملية إعادة هيكلة داخل الحزب والتأكيد علي أن عدم حدوث ذلك في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب سوف يفقد الحزب ليس فقط الثقة التي يحظي بها داخل الشارع السياسي بل سماته الأساسية باعتباره حزبا يساريا, فيما طالب البعض الآخر بسحب الثقة من القيادات المركزية. أما في حزب الوفد, فقد أوصت اللجنة القانونية التي شكلت للتحقيق مع النواب السبعة الذين لم يلتزموا بقرار الحزب بعدم المشاركة في جولة الإعادة, بفصل وتجميد أعضاء. ونشبت خلافات داخل حزب الوفد حول الدعوة التي أطلقها المستشار محمود الخضيري بشأن تأسيس تحالف بين الحزب والإخوان, باعتبارهما أكبر فصيلين سياسيين انقساما بين فريقين: الأول, رفض الدعوة باعتبار أن الجماعة تخلط بين الدين والسياسة, والثاني رأي في الدعوة وسيلة لتطوير الأداء واستبعاد الخلافات. هذه الخلافات في مجملها تطرح عددا من الملاحظات: الملاحظة الأولي, تتعلق بالمضمون, بما يعني أنها بعيدة كل البعد عن التطرق إلي الأسباب الحقيقية وراء الإخفاق في تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات, فبدلا من أن تتجه هذه الأحزاب إلي إجراء عملية مراجعة باتت ضرورية لأدائها السياسي لتوضيح مواطن الضعف المزمنة التي تعاني منها والتي أدت إلي النتائج الهزيلة التي حققتها في الانتخابات, وتطوير برنامج سياسي جديد يستوعب الحاجات الأساسية للشارع السياسي, اتجهت إلي توجيه اتهامات إلي الحزب الوطني بتزوير الانتخابات, في محاولة لإلقاء المسئولية علي الحزب عن هذه النتائج الضعيفة التي حققتها. والملاحظة الثانية, عدم وجود أي تقديرات واضحة حول مستقبل هذه الأحزاب, التي اتجهت إلي تفعيل بعض الآليات البديلة مثل ما يسمي ب البرلمان الموازي, وحكومة الظل. لكن التجربة أثبتت أن هذه البدائل كانت وقتية طرحت لمواجهة ظروف معينة لكنها لم تحقق نتائج جيدة, مثلما حدث عام1977 عندما تم تشكيل لجنة الدفاع عن الحريات, وعام1983 عندما تأسست اللجنة القومية للدفاع عن الديمقراطية, وعام1995 حين شكلت لجنة التنسيق بين الأحزاب, وعام2005 عندما تم تدشين الجبهة الوطنية للإصلاح والتغيير. والملاحظة الثالثة, أن هذه الخلافات لم تنتج تداعيات سلبية علي مستوي الأداء العام لهذه الأحزاب وموقعها علي خريطة القوي السياسية المختلفة فقط, بل تجاوزت ذلك وامتدت إلي الوسائل والأدوات التي تستعملها هذه الأحزاب لإيصال رؤاها إلي جمهورها. وتبدو صحيفة العربي التي يصدرها الحزب الناصري خير مثال علي ذلك, حيث أحدثت الخلافات الناشبة داخل الحزب ارتباكا واضحا داخل الصحيفة. والملاحظة الرابعة, أن بعض الأسباب الخاصة بحالة الضعف التي تعاني منها هذه الأحزاب والتي تجعلها تنشغل بقضايا ثانوية عن القضايا الرئيسية التي تستحق الاهتمام هي تعدد القيادات الطامحة إلي تولي منصب الرئيس أو الزعامة, بشكل يدخلها دوما في دوامة من الانشقاقات التي تدفع التيارات المختلفة إلي مصادرة الحق في تمثيل وقيادة الحزب باعتبارها الأجدر علي ذلك عما سواها, وتحول دون مناقشة هذه الخلافات بشكل ديمقراطي. والملاحظة الخامسة, أن الانتخابات كشفت عن افتقار عدد من هذه الأحزاب إلي الرؤية الواقعية التي تحدد موقع الحزب في الشارع السياسي وفرص مرشحيه في الفوز في الانتخابات, بل إن بعضها دخل الانتخابات مراهنا علي أن ثمة حالة من الانقسام يعاني منها الحزب الوطني نتيجة ما يسمي ب الدوائر المفتوحة التي ترشح فيها عدد من أعضاء الحزب علي نفس المقعد, وأن هذه الحالة سوف تصب في صالحه. وعلي ضوء ذلك لم تتجه هذه الأحزاب إلي تفعيل برامج انتخابية تستطيع من خلالها اجتذاب جمهور الناخبين والدخول في منافسة حقيقية مع الحزب الوطني. ولكن ربما كان في الأمر ما هو أعمق من ذلك كله, وربما لخص أزمة المعارضة كلها داخل الأحزاب السياسية وخارجها ما ذكره الأستاذ الدكتور حسن نافعة صادقا في واحد من مقالاته الأخيرة عارضا تجربته في المشهد السياسي الذي قرر الانسحاب منه ويجب أن يكون واضحا أن انسحابي كان بسبب تراكمات كثيرة أوصلتني في النهاية إلي قناعة بأن الجمعية( الوطنية للتغيير), كهيكل تنظيمي, أصبحت عبئا علي التغيير وليست أداة فعالة لإنجازه.وفي مقال آخر ذكر كل ما في الأمر أنني أرفض أن أصبح جزءا من هياكل تنظيمية تشكل قيدا علي استقلالية الفكر وتقتل الأفكار العظيمة بعد أن تحيلها إلي عملية روتينية عقيمة واجتماعات لا نهاية لها ولا طائل من ورائها. وفي مقال ثالث وصف محصلة العمل السياسي في المعارضة بأنها لم تكن إيجابية; معبرا عن عدم الجدوي في( حضور) اجتماعات عقيمة لا تنتج سوي التفاهات. فهل جاء وقت المراجعة بالنسبة للمعارضة, وهل حان وقت النظر إلي الواقع السياسي, والتمعن في قضية التغيير في مصر؟ نقلا عن صحيفة "الاهرام" المصرية