دروس عديدة رسختها الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة. وستكون مأساة فلسطينية جديدة، فعلا، إن لم يستفد الفلسطينيون من هذه الدروس، وفي طليعتها ضرورة بناء استراتيجية وطنية فلسطينية مشتركة، وإنجاح المصالحة الفلسطينية وصولا إلى إنهاء الانقسام وانضمام كل من حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وفق تلك الاستراتيجية. وفي الأيام الحمراء للحرب، ظهر عمق الوحدة الوطنية الفلسطينية بأجمل تجلياتها، فصائلياً وشعبياً. وخوفاً من ضياع مكتسبات الحرب وصورة تلك الوحدة، كما تجلت على الأرض في القطاع وفي مفاوضات القاهرة، فإن على الفلسطينيين التأكد من أن أي نجاح حقيقي ملموس على الأرض مشروط بوحدة الموقف. فالروح الفلسطينية التي أعادتها الوحدة الوطنية خلال الحرب على القطاع، يجب معها التمرد على الانقسام وإعادة البوصلة إلى الاتجاه الصحيح بعد فشل إسرائيل في كسر إرادة المقاومة، وإدراكها كلفة احتلالها مادياً واقتصادياً وسياسياً وقانونياً ومعنوياً ودولياً. ونجاح هذا الأمر يتطلب قولبة السلطة الفلسطينية ووظائفها والتزاماتها، لكي تنسجم مع واقع "دولة فلسطينية تحت الاحتلال"، بحيث تتم إعادة صياغة الالتزامات والوظائف، سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً، وبشكل أخص أمنياً. وهنا أشدد مع غيري على ضرورة مراجعة موضوع التنسيق الأمني على وجه الخصوص. وطبعاً، يتوجب إنجاز إعادة القولبة على نحو تدريجي، وبما فيه مصلحة فلسطين. إنه لمن الخطأ، بل الخطيئة، إضاعة الفرصة التي وفرتها الحرب بتقديم الخلاص لإسرائيل عبر الدخول مجدداً في عملية تفاوضية عبثية تمنع معاقبتها على جرائمها. وتؤكد الحقائق بأنه، على عكس الشائع، لم تجر بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين مفاوضات حقيقية ومستمرة. ولو نحن حسبنا "تاريخ المفاوضات" زمنيا، لربما وجدنا أن مدة المفاوضات الفعلية، على امتداد عشرين سنة الماضية، لم تتجاوز بضعة أشهر. وقد تأكدت مراراً وتكراراً عبثية المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية الحالية وأحزابها، حيث أصبح ثابتاً أنهم لا يريدون سلاماً ولا "حلا للدولتين". لقد أعادت الوحدة الفلسطينية، على الأرض وفي مفاوضات القاهرة، القضية الفلسطينية إلى الصدارة، إقليمياً ودولياً، بعد أن تعرضت للطمس والنسيان خلال سنوات سبقت ولحقت ما سمي "الربيع العربي". واليوم، وفي وقت ما زال فيه طريق الشعب الفلسطيني إلى التحرر والاستقلال طويلا، من المهم تعزيز التمسك بالمطالب والحقوق الفلسطينية المشروعة. فرفع الحصار عن القطاع وإعادة الإعمار (أول المطالب) معبّد بالصعاب والتحديات في ظل الاعتداءات الإسرائيلية الاستيطانية التوسعية وتنامي دور اليمين المتطرف. وهذا مطلب لا يجوز التوقف عنده فحسب. فالمطلوب من الفلسطينيين استكمال عضوية فلسطين في المنظمات الدولية، وإحالة الاحتلال إلى الأممالمتحدة، والدعوة لمؤتمر دولي مستمر، يُخرج "مسيرة التسوية" من قبضة الانفراد والتفرد الأمريكيين. هنا، لا بأس من التكرار: المطلوب قبل كل شيء هو العمل فوراً على تعزيز المصالحة وطي صفحة الانقسام نهائياً من أجل الوصول إلى وحدة وطنية حقيقية مستمرة لا تتأثر بالظروف، تبدأ بتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية لتضم ممثلي القوى السياسية وهيئات المجتمع المدني. وأصلا، ما كان للمقاومة أن تنجز ما أنجزته وأن تتمتع بحاضنتها الشعبية، وما كان للوفد الموحد في القاهرة أن ينجز ما أنجز، لولا هيمنة الروح الوحدوية يومئذ. غير أن الوصفة الوطنية آنفة الذكر لا تكتمل إلا بالمقاومة الشعبية. ومما لا شك فيه أن للفصائل وللأحزاب الوطنية ولقوى المجتمع المدني الدور الأساسي في قيادة مقاومة شعبية، حضارية، سلمية، تعيد إلى الأذهان إبداعات الانتفاضة الأولى. ويتطلب ذلك دوماً تجاوز المصاعب الجمة وإتمام المصالحة. وفي صلب هذا الموضوع يقع، بشكل واضح، الدور الكفاحي الذي تقوم به لجان التضامن مع الشعب الفلسطيني على امتداد العالم مع الإشارة -وبشكل خاص- إلى الدور الذي تقوم به حركة المقاطعة المعروفة باسم BDS) -"مساعٍ") التي تعبر عن ضمير المجتمع المدني الفلسطيني المؤسس لها، وعن جوهر برامج الفصائل والأحزاب، وعن جوهر القضية. وبعد "زرع السكين الإسرائيلي في ظهر" الرئيس عباس (بمصادرة آلاف الدونمات في جنوب الضفة الغربية والتوسيع المستجد للمستوطنات) وفقاً لاقتباس إسرائيلي، لا مناص من سرعة التوقيع على "ميثاق روما" والانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية. ومن غير المقبول مقايضة ذلك بأية وعود لفظية، أمريكية أو دولية، بخصوص إنهاء الاحتلال! كما أنه من غير المقبول الاستجابة لأية ضغوط أو تهديدات لثني القيادة الفلسطينية عن هذا التوجه. فإسرائيل وقادتها يجب أن لا يفلتوا من دفع ثمن كل ما ارتكبوه من جرائم حرب ضد الإنسانية، ولا تجوز المساومة أو التهاون، أو ربط في ذلك، أو مقايضة هذا الملف بأي ملف آخر (سوى ملف الإنهاء الناجز للاحتلال الإسرائيلي) مع توسيع الاستفادة من أي محفل أو منبر حقوقي دولي لملاحقة إسرائيل على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها ليس في قطاع غزة فقط بل وفي عموم فلسطين. ختاماً، نجمل المطلوب بالقول: لقد أجمعت القيادة الفلسطينية على التمسك بقرارات اللجنة التنفيذية والمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية فيما يتصل بالمصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية. وبالطبع، إن كانت هناك مخاوف وشكوك واتهامات لدى أي من الأطراف الفلسطينية الكبرى (وهي موجودة)، فبالإمكان، بل من الضروري، أن تبحث بوضوح وصرامة ضمن "الإطار الموسع" لمنظمة التحرير، على قاعدة ضرورة ضمان الوحدة الوطنية وعدم التخلي عنها مهما كانت الأسباب والمعوقات. كذلك، ضرورة عودة منظمة التحرير إلى الاستراتيجية الوطنية الموحدة الجامعة بكل عناوينها، والمطالبة بمؤتمر دولي للسلام تحت رعاية الأممالمتحدة، مرتكز على تعاون واشنطن مع موسكو والاتحاد الأوروبي والعرب، بحيث يلزم حكومة الاحتلال الإسرائيلي بالانصياع لتطبيق قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي، خاصة في ظل ما أشيع عن خطة الرئيس عباس للتحرك السياسي والدبلوماسي التي سيطرحها على هامش الاجتماع الدوري للأمم المتحدة في نيويورك، بهدف تحريك القضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي، وذلك بدعم عربي حقيقي يتوجب السعي الحثيث والجاد لتأمينه؛ لأنه أيضاً رافعة لا غنى عنها لإحقاق الحق الفلسطيني. نقلا عن جريدة الإتحاد الإماراتية