جلست أم بسام القرفصاء على ضفاف نهر العاصي تغسل ملابس أسرتها، وقد تخدرت يداها من برودة الماء في شتاء سوريا القاسي، وأخذت تحدث نفسها: لا كهرباء ولا ماء ولا مازوت ولا خبز، لعنة الله عليك يا بشار وعلى أعوانك، غير بعيد عنها وقفت بعض نساء حلفايا يغسلن ملابسهن، وهن تتحدثن باكيات عن مقتل العديد من أهل قريتهن، وأهل حماة، قالت أم هيثم: يا رب يرحمهم برحمته، الله ينتقم ممن كان السبب. ارتفعت أكف النسوة تدعين جميعا على قاتل الشباب والرجال والنساء والأطفال، قالت إحدى الفتيات بصوت مسموع: إن قريتنا الجميلة حلفايا من أوائل القرى التي ثارت على الأسد المجرم وأعوانه، لذلك قرر وجهاء القرية أن تخرج من قريتنا مظاهرة جماعية من شباب حماة وحلفايا والقرى المجاورة باتجاه دمشق لمؤازرة أهلنا هناك، يوم الجمعة القادم، من منكن تريد الاشتراك؟ تعالت أصوات النسوة تعلن جميعا موافقتهن على الاشتراك في هذه المظاهرة.
نادت أم بسام على ابنها قائلة: لقد سمعت أمس أن هناك دقيق وصل إلى حلفايا، إذهب يا بسام الله يرضى عليك أحضر لنا بعض ربطات الخبز، لأوزع بعضها على جاراتي، فقد كن خير عون لي عندما نفذ الخبز لدينا منذ أكثر من شهر، قال الشاب: حاضر يا أمي الجار للجار خصوصا في أوقات الأزمات، لقد أصبح الخبز في هذه الأيام عملة نادرة، هل تعرفين يا أمي أن سعر كيس الخبز الواحد أكثر من مائة وخمسين ليرة، كان الله في عون من لا يمتلك مالا، تنهدت أم بسام قائلة: لقد بعت مصاغي في هذه الأيام السوداء، الله يرحمنا برحمته يا ولدي، ناولته النقود اللازمة وأكملت: إذهب يا ولدي ولا تتأخر أمانة عليك، عد قبل آذان الجمعة لنذهب معا للصلاة، ثم ننطلق في المظاهرة، ابتسم بسام قائلا: حاضر يا أروع ثائرة في قرية حلفايا كلها، ثم قبّل يد أمه وانطلق، وهي تتمتم له بالدعاء.
وقف بسام خلف الصفوف الطويلة التي انتظمت، معظم أهل قريته جاءوا من أجل الخبز، نساء وأطفال و شباب وشيوخ، يتحدثون بأسى عن ضنك العيش الذي تعانيه قريتهم الوادعة منذ ما يقارب السنتين، وعن غلاء الأسعار واختفاء المازوت للتدفئة، إلى جوار جورج ابن بائع المازوت، كانا متقاربين في السن؛ كلاهما لم يبلغ الثامنة عشرة، قال جورج: هل تعرف يا بسام؟ لقد شارف أبي على الانهيار، لم يعد هناك تجار يبيعون لنا المازوت بالسعر العادي، لقد ارتفعت أسعار المازوت حتى أوشك أبي أن يفلس، ربت بسام على كتف صديقه قائلا: الحال من بعضه يا جورج، ثم أشار بيده إلى أرض أبيه القريبة من نهر العاصي قائلا بحزن: اضطر أبي أن يبيع أرضنا بثمن بخس، لكي يدبر لنا ما نقتاته، أتذكر عندما كنا صغارا أنا وأنت وسيراني الكردي ؟ كنا نلعب في غابات الحلفا حول القرية، كانت أيام.
الأسد أصبح ضبعا كريها يريد البلد كلها قتلى وجثث، ولا فرق عند أسلحته بين أحد من أهل سوريا، هل تعرف يا جورج؟ إنه مخطط بشع لتجويعنا، وجعلنا نركع ونتمنى بقاءه مع عصابته، وتنهد قائلا بحرقة: هل يتصور هذا المجنون القاتل أننا سنرضى ببقائه في سدة الحكم، و هو يقتل أبناء شعبه بدم بارد؟ سنحاربه حتى آخر قطرة من دمائنا وسيرحل أو يُقتَل بإذن الله، سكت وكأنه تعب من الكلام، نظر إلى ابن جارتهم بارع الطفل الصغير ، ابتسم له مشفقا عليه لوقوفه في هذا البرد القارس وهو لم يبلغ الرابعة بعد، سمع من بعيد أزيز طائرات حربية رفع الجميع رؤوسهم يستطلعون الأمر، ألقت الطائرات الحربية حمولتها من القنابل على الحشد الواقف أمام فرن حلفايا البلدي، واحترق الفرن وعلت أصوات الأنين والصراخ من كل مكان، وزحف بسام على بطنه وقد أصيبت ساقه بشظية فانبثقت منها الدماء بغزارة، تلفت حوله، كان الجميع قد لقوا حتفهم، وتناثرت أشلاؤهم مع دقيق الفرن البلدي الذي تهدم إثر القذائف المتتالية، سمع بسام أنينا قريبا، زحف نحو الصوت هاله ما رأى، كان بارع ملقى على الأرض تتدفق الدماء بغزارة من ساقه المقطوعة.
حاول الوصول إليه لكنه لم يقدر، فقد عادت الطائرات الحربية لتمطر سماء حلفايا بالمزيد من القنابل، بعد ساعتين هدأ الصراخ والأنين وساد الهدوء القاتل أرجاء القرية الصغيرة الوادعة، زحف بسام مرة ثانية يبحث عن بارع، وجده فارق الحياة وعلى وجهه ابتسامة ملائكية، ويده تقبض على كيس الخبز الذي تلون بدمائه الطاهرة، بينما كانت مسيرة حلفايا متوجهة إلى دمشق.