إسمي شحات، هكذا يناديني كل من يعرفني، وهو ليس مكتوبا في شهادة ميلادي، فأنا ليس عندي شهادة ميلاد. عمري؟ لا أعرف كم عمري، أعتقد أني في العاشرة. أين أعيش؟ بيتي هو شوارع القاهرة تحت جسر أو داخل سيارة محطمة مثلي، أو مبنى مهجور، أو في مقالب القمامة، وجدت نفسي في الشارع لا أب لي ولا أم، مثلي كثيرون لا يفكر فينا أحد، ولا يعترف بوجودنا أحد، لقمتي أجدها في صناديق ومقالب القمامة، في المناطق التي أختارها، الزمالك المهندسين الهرم، أتجول منذ الصباح على غير هدى، فليس هناك من يحاسبني إن تأخرت أو سهرت حتى الفجر، أكسب جنيها أو بعض القروش من مسح زجاج السيارات أو بيع المناديل الورقية أو التسول، تقيم هذه القروش أودي قليلا، لكني جائع دائما لا أشعر بالشبع أبدا، وكيف أشعر بالشبع وطعامي خبز ناشف مع بعض الفول المدمس أو الطعمية، ولم أذق اللحم إلا مرتين في حياتي منذ عدة سنوات، أرى الأطفال في مثل سني يروحون ويغدون إلى مكان اسمه المدرسة، لا أعرف ما هي المدرسة، لكن الذاهبين إليها يتجنبون المرور بجواري وكأني كلب مسعور، لي ثلاثة أصدقاء نتجول معا طوال النهار، نستعطف الناس بملابسنا الرثة ووجوهنا الكالحة التي لا يعرف الماء إليها سبيلا، منهم من يعطينا ومنهم من يتأفف منا ومنهم من يسبنا ويلعننا، وعندما ينهكنا التعب من كثرة المشي والتسول نجتمع عند سور مصنع للرخام، نشم الكُلّة التي نسرقها منه، وقد يحصل أحدنا على شريط برشام نبتلع أقراصه، فننسى ما نحن فيه، ثم نستلقي في العراء، السماء غطاؤنا والأرض فراشنا، ونغيب عن الوعي والوجود.. ذات مساء أيام المظاهرات، كنت جالسا كعادتي مع رفاقي عند جدار مصنع الرخام، نحتمي من البرد القارص بأغطية رثة وجدناها في القمامة، حين توقفت فجأة أمامنا سيارة فاخرة، ترجل منها رجل يلبس ملابس فخمة، اقترب منا وهو يتلفت حوله، ثم قال لنا هامسا: هل تريدون أن تكسبوا بعض المال؟ انحنيت على يده أقبلها، لكنه جذب يده وقد اكتسى وجهه بعلامات القرف، قلت له بفرح: نحن خدمك يا سيدي، مُرنا بما تريد، ابتسم الرجل وأعطى كل واحد منا خمسين جنيها، ثم قال: هذه لكم يا رجال بشرط أن تفعلوا ما أطلبه منكم، دون أن أفكر قلت له وقلبي يكاد يطير من الفرحة: طبعا يا سيدي، ماذا علينا أن نفعل؟ أجابني وهو يتلفت حوله: تعالوا معي إلى السيارة، تبعناه ذاهلين، ناولني عددا من الزجاجات السوداء، وقال وهو يشير إلى اتجاه ميدان التحرير: في آخر شارع قصر العيني هناك مبنى قديم أصفر، ستجدون عنده زحاما، تذهبون إلى هناك بعد قليل، وفي الزحام والفوضى اندسوا بين الناس، و ألقوا هذه الزجاجات بعد أن تشعلوها بعود ثقاب داخل هذا المبنى، واحرصوا على ألا يراكم أحد هل تفهمون ؟ هززنا رؤوسنا موافقين، وقلت أنا بفرح حقيقي: حاضر يا سيدي أنا خادمك المطيع، قال الرجل و هو يبتعد: سأجدكم هنا المرة القادمة لأكلفكم بمهام أخرى، هذا سر بيننا يا رجال.. قلت له: طبعا يا سيدي لن يعرف مخلوق بهذا أعدك و ستجدنا هنا دائما.
اقتربنا من المبنى القديم في زحام المتظاهرين، وبين مظاهر الفوضى العارمة والحجارة المتساقطة، وسحب الدخان نفاذ الرائحة، أشعلنا في زجاجاتنا النار وألقينا بها داخل المبنى، وانطلقنا نعدو حتى تعبنا من الجري، جلسنا نستريح قليلا ومن بعيد لمحنا ألسنة النيران تتصاعد من داخل المبنى، وحين أتت عليه النار وانهار سقفه، كنا نتناول ألذ عشاء في حياتنا.
مر على تلك الليلة عام كامل، أتانا خلاله الرجل ذو الملابس الفخمة عدة مرات، وكل مرة يعطي كلا منا خمسين جنيها، ويكلفنا نحن الأربعة بمهمة إلقاء الزجاجات الحارقة، كل مرة في مكان مختلف، في المنيل ومصر القديمة والمقطم ومصر الجديدة، وكل مرة ننفذ ما طلبه منا بنجاح ونعدو هاربين..
هذه الأيام أسمع كلمة الدستور تتردد على كل لسان، ما هو الدستور ؟ قال لي بعض من أعرف أنه هو الذي يحميني ويحافظ على حقي ! أي حق ؟ وكيف هو هذا الدستور ؟ لا يهم.. المهم هو أن يأتينا الرجل ويكلفنا بما يريد ويدفع لنا الخمسين جنيها، وأتانا الرجل ودفع هذه المرة لكل منا مائة جنيه، لنحرق قصرا في الدقي، وأحرقناه.
في اليوم التالي نسب حرق مقر حزب الوفد إلى شخص اسمه حازم، إن اسم أحد رفاقي حازم، فهل كشفونا ؟ بين هلوسات البرشام ورائحة الكُلّة وطعم البيرة والكباب، لا أدري ما الذي جعلني أفكر في الدستور !