ما نسبة الحقيقة وما حجم الخيال فى فيلم هيتشكوك الذى عُرض فى مهرجان دبى..؟ لا شك أن هذا المخرج تحول إلى أسطورة رغم أنه لم ينل «الأوسكار» ولكن صار اسمه مرادفا للسينما أكثر من جائزة الأوسكار. أنتونى هوبكنز وهيلين ميرين الحاصلان على الأوسكار هما بطلا الفيلم الذى لا تستطيع أن تعتبره سيرة ذاتية للمخرج بقدر ما هو فقط يضع بعض ظلال وتفاصيل على حياته التى تستطيع من خلالها أن ترى هيتشكوك الإنسان.. نعم بالتأكيد هناك ملامح وحالة خاصة شاهدناها عبر العديد من الكتب والأحاديث التى رصدت حياة هيتشكوك، الفيلم يكتفى فقط بتقديم بعض منها، مثل تعلقه بالشقراوات وكان من المعروف أنه كثيرا ما يقع فى حب بطلاته، وتوقف المخرج ساشاجير فاسى أمام فيلم فارق فى حياته وهو «سايكو».. ومن خلال الفيلم يطل المخرج على كواليس هوليوود وكيف أن الشركات الكبرى تحاول أن تفرض حتى على كبار المخرجين شروطها، إلا أن السؤال الذى يؤرق المبدع فى كل مجال: من الأدرى بما تريده الجماهير؟ وإلى أى مدى يستطيع الفنان المبدع أن يقرأ مشاعر الناس؟ وكيف أن السوق السينمائية بلا مشاعر ومهما حققت أفلام المخرج من إيرادات فإنه فى لحظة عندما يفشل فيلم أو بمجرد أن يستشعروا أن المؤشر لا يتوجه إبداعيا ناحية المخرج على الفور يغلقون صفحته الفنية؟
لم يكن اختيار فيلم «سايكو» عشوائيا بالطبع، ولكن فى تلك المرحلة من حياته التى كان قد تجاوز فيها الستين من عمره بدأت الشركات الكبرى تراهن على أسماء أخرى ليصبح الفيلم بمثابة لحظة فارقة ليس فقط لسيرة حياة المخرج الفنية ولكن أيضا للإنسان هيتشكوك.
عندما رفضت الشركات تمويل الفيلم وأرادت فرض أفكارها عليه تحدى هيتشكوك نظام هوليوود وراهن على مشاعره إلا أن المأزق لم يكن فقط فيلما ولكن حياة أسرية تنهار عندما بدأت الشكوك تحوم حول خيانة زوجته.. هل كانت الخيانة نوعا من الانتقام لرجل لم يعرف الإخلاص فى حياته بسبب ضعفه الدائم أمام الشقراوات ولهذا فى ختام الفيلم يقول لزوجته أنه اعتبرها الشقراء التى لم يحب غيرها، وانتظاره 30 سنة على إعلان ذلك يؤكد أنه سيد سينما التشويق فى العالم.
الفيلم يشير إلى أن زوجته لم تكن مجرد مساعدة له تقدم فقط أفكاره ولكنها كانت مبدعة أيضا لها إضافاتها التى لا يمكن إغفالها، ويشير إلى أنها مثلا هى التى أصرت على استخدام الموسيقى التصويرية فى مشهد الحمام الشهير الذى شكل نقطة فارقة فى نجاح فيلم «سايكو»، حيث إن الاعتراض كان أساسا من شركة باراماونت بسبب هذا المشهد الذى اعتبروه متجاوزا فى دمويته وسوف يؤدى إلى نفور الجمهور. من المشاهد التى قدمها المخرج ساشا جيرفاسى وتبقى كثيرا فى الذاكرة هى تلك التى تابعنا فيها هيتشكوك وهو يتوحد وجدانيا مع الجمهور من خلال الكواليس إنه يتابع صمت الناس وخوفهم ويقدم أنتونى هوبكنز مشهدا أعتبره واحدا من المشاهد التى لا تُنسى فى تاريخ فن الأداء عندما نرى يديه خارج دار العرض وكأنه مايسترو يقود مشاعر الناس وترقّبهم بل وصرخاتهم، إنه الصراع الأخير الذى حقق من خلاله انتصارا على هوليوود، مؤكدا لهم أنه يعرف بالضبط ما الذى يريده الجمهور.. الفيلم يقول بصوت عالٍ إن الناس هم الذين يحددون قيمة المخرج..
وتبقى الكواليس السينمائية.. كثيرة هى الأفلام التى كان ملعبها الأساسى هو ما يجرى خلف الشريط السينمائى والفيلم يقدم جانبا منها ولكنه يخرج بعيدا لنرى كيف أن المخرج الذى اشتهرت عنه قدرته على أن يضع المتفرج فى حالة تردد وشك هو نفسه يعيش فى حالة تردد وشك مع زوجته، وكما أنه من خلال التفاصيل الدقيقة وغير التقليدية تستطيع كشف الجريمة على الشاشة فإن هيتشكوك يبدأ فى الإمساك بتلك التفاصيل ويتأكد أن زوجته تخونه ولكن هى أيضا تعيش الخيانة من خلال هذا العشيق أو مشروع العشيق الذى يخونها.
المشهد الذى لا يُنسَى وأدّاه باقتدار أنتونى هوبكنز عندما رأينا يديه تعزف ومضات ونبضات الجمهور فى الصالة وهو يتابع مشهد العنف فى الحمام، كان هوبكنز فى قمة الأداء كأنه يطير من النشوة وطرنا معه فى مقاعدنا!!