جلست علي الدرجة الأولي من أحد السلالم المحيطة بجامع الزيتونة في تونس العتيقة، كان الوقت قبل المغرب بقليل بدأت الحركة تنبئ عن موعد إغلاق المحال، وموعد انصراف الموظفين وغالبًا الطلبة. حركه مفاجئة أمامي يتبادل أصحابها كلمة واحدة بصوت عالٍ يسبقها ويتبعها كلمات مضغمة لا أفهمها. الكلمة هي «خير». يتبادل أهل تونس تحية الصباح (صباح الخير). وتحية المساء (تصبح علي خير) بمعني أراك علي خير، ويعطون لحرف الياء حقه في النطق والتطويل، بحيث تجد نفسك في تونس محاصرًا بالخير ثم وقبل أن تنتهي رحلتك تكررها مثلهم. قضيت أول أيام الأسبوع الماضي في فندق حديث بعيد عن وسط تونسوالمدينة العتيقة، يطل علي البحر، يقع في ضاحية اسمها قمرت، كنت أتابع مؤتمرًا عن مقاومة العنف ضد المرأة بمناسبة احتفال تونس بيوم المرأة العالمي لأنها - تونس - رئيسة منظمة المرأة هذه الدورة. لمدة ثلاثة أيام لم يتوقف المطر الكثيف ولم تتوقف أعمال المؤتمر. كلاهما - المطر والمؤتمر - حددا حركتي. فظلت تونس- التي كنت أزورها لأول مرة - بالنسبة لي تشبه مدينة الإنتاج الإعلامي. ديكورات رائعة الجمال لكنها ديكورات. أقطع الشوارع بالسيارة أتامل البيوت والأبواب، والأشجار يغسلها المطر المنهمر، لايوجد أي شيء يدل علي أن هذه الأماكن مستعملة. زملائي منبهرون بالنظافة والجمال وأنا أسخر منهم (ما هي مدينة الإنتاج الإعلامي فلة كده)!! في إحدي الليالي دعانا وزير الاتصال (الإعلام يعني) علي مأدبة عشاء في واحد من أجمل المطاعم في تونس، المطعم يقع في المدينة العتيقة (اسمه دار الجلد) كان في الأصل بيتًا قديمًا أثريًا تحول إلي مطعم «قدم لنا المأكولات التونسية علي أنغام موسيقي تونسية تعزف علي القانون». في ليلة ثانية حضرنا أمسية غنائية للمطربة التونسية سنيا مبارك، الأمسية مقامة في أحد الأماكن الأثرية التابعة لوزارة الثقافة الواقعة في المدينة العتيقة أيضا. كل شيء كان مثاليًا بما في ذلك الغناء لدرجة أنه يصعب أن يكون حقيقيًا. لكن ما أدهشني في الليلتين هو الطرق المؤدية إلي هذه الأماكن، هي طرق مرصوفة ضيقة متعرجة لا تدخلها السيارات يقطعها سلالم حجرية صعودًا وهبوطًا. يحيطها علي الجانبين بيوت صغيرة بيضاء لها شبابيك وأبواب زرقاء. قالت لنا المرافقة التونسية (تقدروا تعتبروا أن هذه المنطقة كيف خان الخليلي) تقصد أنها تشبه خان الخليلي. قلت لها: إنتي متأكدة إنها مش ديكورات؟ لم تفهم. فسألتها: يعني في ناس عادية بتمشي في الشوارع دي؟ ولا دي مدينة الإنتاج الإعلامي بتونس؟! لكن بعد أن انتهي المؤتمر وتوقف المطر، وزرت نفس الأماكن نهارًا، وسمعت أهلها يتبادلون كلمة (خير) أغرمت بتونس الحقيقية.