يشير التاريخ المرضي المعلن للرئيس حسني مبارك طوال ال 29 عاما الماضية إلي تعرضه لبعض الوعكات الصحية التي تتراوح مابين البسيطة والمتوسطة فما بين الإغماءة الشهيرة للرئيس أثناء إلقائه خطاب الجلسة الافتتاحية المشتركة لمجلس الشعب والشوري في 18 نوفمبر 2003 مرورا بجراحة الانزلاق الغضروفي التي أجريت بمركز ميونيخ للرعاية الطبية بمدينة ميونيخ الألمانية في يونيو من عام 2004، وانتهاء بعملية استئصال الحوصلة المرارية بمركز هايدلبرج الجامعي الألماني السبت الماضي يلاحظ أن العلاج بالخارج بات هو الخيار المفضل للرئيس ومعاونيه بمن فيهم وزير الصحة نفسه والذي لجأ لإجراء فحوصات طبية عادية ودورية بالخارج علي الرغم من امتلاكه لإمبراطورية صحية ضخمة في مصر وعدد من الدول العربية، وبعيدا عن الدعاوي التي قد يطرحها البعض من قبيل حق الرئيس في نيل أفضل رعاية صحية ممكنة باعتباره رمز الدولة فإن لجوء الرئيس ونصحه لبعض الشخصيات العامة بالتوجه للعلاج بالخارج كما شاهدنا في حالة الفنان الراحل أحمد زكي والذي نصحه الرئيس بالعلاج من السرطان في فرنسا بمثابة الدعوة لعلاج الصفوة بالخارج يطرح العديد من التساؤلات حول كفاءة النظام الصحي في مصر ومدي ثقة المسئولين به والتي تنعكس بدورها علي الشعب خاصة إن كان المواطنون المحرومون من أبسط حقوقهم الدستورية في الحصول علي العلاج في ظل إلغاء العلاج المجاني بالمستشفيات وفساد نظام العلاج علي نفقة الدولة يرصدون عزوف رئيسهم ووزرائهم وعن علاج أبسط الأعراض المرضية محليا. وعلي الرغم من اختلاف الآراء الطبية علي بساطة التدخل الجراحي الذي خضع له الرئيس، فإن جميعها تكاد تجزم بإمكانية إجرائه في مصر لولا انهيار الثقة بالمنظومة الصحية في مصر للعديد من الأسباب التي تتغاضي الحكومة عنها مفضلة إعلان وفاة النظام الصحي بدلاً من إصلاحه. «الدستور» استطلعت آراء الخبراء المتخصصين من مختلف الانتماءات لتقديم رؤية واضحة حول أسباب عزوف الرئيس والوزراء عن العلاج في مصر وانعكاساته علي المنظومة الصحية. المشكلة ليست طبيباً شاطراً وأجهزة.. هناك انهيار حقيقي بالنظام الصحي في مصر هكذا بدأ الدكتور محمد حسن خليل خبير نظم التأمين الصحي، ومنسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة تقديم رؤيته لأسباب علاج الرئيس ومعاونيه بالخارج قائلا إن المنظومة الصحية تدار بشكل سيئ للغاية علي الرغم من وجود مراكز عالية المستوي تجتذب المرضي والأطباء من الخارج فإن هناك حالة من انعدام الثقة بالنظام الصحي المحلي من جانب المسئولين لمعرفتهم بقصور المنظومة الصحية في العديد من الجوانب خاصة الطبيب ابتداء من حديث التخرج وانتهاء بالأستاذ الجامعي والذي يضطره النظام الصحي إلي العمل في أكثر من جهة دفعة واحدة لتوفير نفقاته وهو مالا يحدث بأي دولة في العالم خاصة إن تلك الدائرة المفرغة التي يمر بها الأستاذ الجامعي تؤثر في عطائه الأكاديمي لطلاب كليات الطب وقدرته علي تدريب شباب الأطباء الذين يعانون نقص الخبرة والممارسة وبالتالي فمن البدهي أن يقبل المسئولون في مصر وفي مقدمتهم الرئيس مبارك علي العلاج بالمنظومة الصحية الألمانية المعروف عنها الانضباط والتقدم، فعلي الرغم من امتلاكنا الكفاءة والخبرة والإمكانيات في بعض مستشفياتنا فإن هناك ضعفاً في الثقة بكفاءة المنظومة ذاتها والتي تريد إصلاحا هيكليا يبدأ بمناهج التعليم مرورًا بتوفير آليات التدريب والتنمية المستدامة وانتهاء بحجم الإنفاق والأجور إلا أن تلك المطالب لا تتحقق علي أرض الواقع ولا توجد أي محاولات جادة من جانب الحكومة لإصلاح النظام الصحي بشكل هيكلي علي الرغم من معرفتها بعيوبه خاصة التمريض الذي يظل أكبر معوق للنظام الصحي في مصر وأكثره تأثيرًا، حيث نعاني عجزًا هائلاً فيه وقلة كوادره المدربة وعدم تطبيق أغلب أفراده لأبسط قواعد مكافحة العدوي، وعلي الرغم من ذلك يظل النظام الصحي رغم عيوبه من أفضل النظم الصحية أفريقيا خاصة لما يمتلكه من أدوات تساعده علي النهوض شرط اعتراف الدولة وعزمها علي إصلاحه بدلا من الاكتفاء بعلاج مسئوليها بالخارج. العالم الكبير الدكتور محمد غنيم رائد جراحات المسالك البولية في مصر والشرق الأوسط، يقول إن تشخيص حالة الرئيس ذاتها هي ما دفعته للسفر للعلاج بالخارج خاصة ظهور الزائدة اللحمية بالاثني عشر إلا أنه في الوقت ذاته يؤكد احتياج النظام الصحي في مصر لمزيد من الاهتمام بالكوادر الطبية والاستثمار في تعليمهم بدلاً من الاستثمار في الأجهزة والمباني، وانتقد غنيم علاج القادرين علي نفقة الدولة قائلا: من غير اللائق أو الأخلاقي استيلاء الأغنياء علي أموال علاج الفقراء. فيما يكشف الدكتور عمرو حلمي - عميد معهد الكبد بالمنوفية السابق وأستاذ جراحة الكبد والجهاز الهضمي - الذي تربطه صداقة وطيدة من تسعينيات القرن الماضي بالطبيب الذي أجري جراحة الرئيس مبارك بألمانيا عن مفاجأة من العيار الثقيل قائلا: إن اختيار معاوني الرئيس للبروفيسور الألماني ماركس بوخلر جاء موفقا للغاية خاصة لأنه من الأطباء المعدودين علي أصابع اليد الواحدة في جراحات القنوات المرارية والبنكرياس بالعالم، كما أن مثَّل بلاده أكثر من مرة وترأس الاتحاد الدولي للكبد والبنكرياس ولجراحات القنوات المرارية ومشيرا إلي أن تشخيص وجود زائدة لحمية بالجزء الثاني بالاثني عشر بجوار البنكرياس هو ما دفع أطباء الرئيس للجوء لذلك الطبيب، حيث إنه الأمهر في جراحة البنكرياس وقال حلمي إن البروفيسور بوخلر رجل هادئ الطباع دمث الخلق يعشق مصر للغاية وسبق أن أعطي صوت بلاده لصالح مصر لاستضافة مؤتمر الاتحاد الدولي لجراحات الكبد والبنكرياس والقنوات المرارية أكثر من مرة، وأشار حلمي إلي إن علاقته ببوخلر نشأت عندما كان يحاضرفي جامعة برن بسويسرا حيث تمت دعوتي لإلقاء محاضرات بها وتوطدت العلاقات بيننا وتم إرسال اثنين من الأطباء النواب العاملين بمعهد الكبد القومي بالمنوفية، لنيل درجة الدكتوراة تحت إشرافه وهو ما تم بالفعل آخرهما حصل علي الدرجة العام الماضي، وقال حلمي إن البروفيسور بوخلر لم يزر مصر من قبل ولكن الفريق المعاون له والذي ساعده في إجراء الجراحة جاء إلي مصر في زيارة لمعهد الكبد القومي بالمنوفية وألقي عدداً من المحاضرات لشباب الأطباء به وأثني علي مستوي الخدمة المقدمة به. ويعود الدكتور عمرو حلمي لتفسير حالة الرئيس قائلاً: إنه فور سماعه لما قاله البروفيسور بوخلر من أسباب إجرائه لجراحة مفتوحة لاستئصال المرارة والزائدة اللحمية قدر مدي الحيرة والتردد الذي عاشه أطباء الرئيس خاصة أن وجود زائدة لحمية بجوار البنكرياس تستدعي جراح ماهر متخصص بدقة بجراحات البنكرياس، لافتا إلي أن الطبيب بوخلر أجري آلاف الجراحات في المجال ذاته حيث يعمل في ذلك المجال منذ أكثر من 30 عامًا كما أن مركز هايدلبرج الطبي الذي أجريت به الجراحة له سمعة طبية راقية وتتوافر به التجهيزات الطبية اللازمة من عناية فائقة وأطقم طبية لإجراء مثل تلك الجراحات. وكشف الدكتور عمرو حلمي حقيقة إن بعض الأطباء قد يدفعون بعض الشخصيات العامة ذات الحيثية لإجراء العمليات الجراحية بالخارج علي الرغم من بساطتها مشيرا إلي إن الدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة الأسبق دفع الشيخ محمد متولي الشعراوي إلي إجراء عملية المرارة بالخارج علي الرغم من بساطتها. الدكتورة مني مينا المتحدث باسم حركة أطباء بلا حقوق أرجعت لجوء الرئيس والوزراء للعلاج بالخارج إلي فقدان الثقة بالعلاج في مصر من جانب الصفوة لمعرفتهم بحجم الفوضي وضعف الإمكانيات بالنظام الصحي المحلي خاصة فقدان الرعاية التمريضية لما بعد العمليات الجراحية وقواعد مكافحة العدوي التي عادة ما يتم الاستخفاف بها وعدم الرقابة علي تطبيقها في المستشفيات الحكومية والتي تؤدي إلي حدوث مضاعفات شديدة للمرضي خاصة مع سوء مستوي التمريض الذي يعاني تدني مستوي الدخل والظروف المعيشية السيئة وهو ما يجعل بعض المستشفيات الخاصة تستعين بممرضات من الخارج علي الرغم من أن الرعاية التمريضية اللاحقة التي تلي التدخلات الجراحية تشكل ما نسبته 50% من العلاج وهو مالا يوفره النظام الصحي المصري فضلا عن الإيقاع اللاهث للطبيب المصري الذي يسعي طوال الوقت لتحسين أجره، وتوفير أبسط مستويات المعيشة بالإضافة إلي غياب تدريب شباب الأطباء ونقل الخبرات إليهم وهو ما يجعل الطب في مصر مريضا يستدعي تقديم العون وليس تجاهله والبحث عن بدائل لأبسط العوارض المرضية بينما يري الدكتور علاء غنام - مدير برنامج الصحة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية - إن الدولة عادة ما تلجأ لعلاج الرئيس وكبار المسئولين بالخارج نظرا لأهميتهم الشخصية وليست لأسباب تقنية كضعف النظام الصحي المشهود له بالكفاءة في عدد من المجالات خاصة الوقائية منها والجراحية خاصة جراحات المسالك البولية والجهاز الهضمي وتوافر كذلك المراكز الطبية المتميزة، مشيرا إلي إن سفر الرئيس للعلاج بالخارج هدفه توفير أفضل وسائل الرعاية الصحية لشخص الرئيس خاصة الرعاية التمريضية المنضبطة التي يشتهر بها النظام الصحي الألماني والأجهزة الطبية الحديثة. فيما يؤكد الدكتور محمد أبو الغار أستاذ أمراض النساء والتوليد بجامعة القاهرة أن التخصصات الطبية التي تستدعي السفر بالخارج ولا تتوافر إمكانيات علاجها في مصر لا تتعدي 2 أو 3% من إجمالي تخصصات الطب، لافتا إلي إن الرئيس كان من الممكن علاجه في مصر بسهولة علي الرغم من ملابسات الحالة التي قد تشكل قلقا لدي بعض الأطباء خاصة مع تقدم عمر الرئيس الذي تجاوز الثمانين عاما، وقال أبوالغار إنه علي الرغم من العيوب الكثيرة التي تحيط بالنظام الصحي في مصر فإنها لا تظهر للصفوة أوالأغنياء الذين يعرفون كيف يمكنهم الحصول علي أعلي خدمة صحية داخل مصر بأموالهم أو نفوذهم. بينما أكد الدكتور هشام الخياط - أستاذ أمراض الكبد والجهاز الهضمي بمعهد تيودور بلهارس - أن العملية الجراحية التي أجراها الرئيس علي الرغم من بساطتها إلا أن لها بعض المخاطر المحتملة تتمثل في انسداد القناة المرارية والتي كانت تحدث في الماضي وكان يتقبلها المرضي بينما الآن لا يتقبلها أحد في ظل تقدم الطب والذي يكفل ضمانات عدم حدوثها لافتا إلي أن الرئيس لديه حق أصيل في العلاج بالخارج مقارنة بالفنانين والأدباء والشخصيات العامة التي تعالج بالخارج لأبسط الأسباب خاصة مع تدني الخدمة التمريضية وليس معني ذلك عدم الثقة في الطب المصري والذي يتوافد عليه شخصيات مهمة للغاية تنتمي للأسر الحاكمة بعدد من الدول العربية وهو ما يعني استمرار الثقة والسمعة الطيبة للطب المصري لكن عادة ما يطمح أطباء الرئيس في توفير أفضل رعاية صحية له.