اجتمع رجال وشباب حي باب السباع في مدينة حمص، كعادتهم في صف طويل، ينتظرون أن يفتح المخبز البلدي أبوابه، ليأخذ كل نصيبه من الخبز، ويعود إلى أهله قبل اندلاع القتال، كان أبو واصف يقف بجوار جاره أبو عدنان يتناقشان فيما آل إليه حال البلد، واختلفت آراؤهما حتى علا صوتهما، ووقف الجميع يستمعون باهتمام إلى الحوار المحتدم بين الجارين، أبو عدنان يدافع عن بشار بحماس وهو يلعن أبو الثورة والثوار، وأن سورية كانت في غنى عما آل إليه حالها، من الدمار والتخريب وقتل الكثيرين من أبنائها، قاطعه أبو واصف بسخرية مرة قائلا: –إنك يا أبو عدنان لا تعرف لماذا اندلعت الثورة، لقد حكمنا العلويون أعواما طويلة وجثموا على صدورنا أربعين عاما، كانوا فيها خير معين لأعداء سوريا، كل شئ في البلد تسمى باسم الأسد، الشوارع والمكتبات والميادين والجسور والجامعات.. لقد اعتقدوا أن البلد بما فيها ومن فيها ملكا خالصا لهم، ولم يكتفوا بذلك، بل حبسوا كلمة الحق في صدورنا جميعا شبابا ورجالا ونساء وأطفالا، هل تذكر ماذا حدث لأبو طالب عندما قال ابنه ذو الستة أعوام في المدرسة أن أباه بصق على صورة حافظ الأسد، أتذكر؟ كيف عُذب حتى مات؟ حتى شيوخنا لم يجرؤ واحد منهم على قول الحق ضد السلطان الجائر، وتنهد أبو واصف مكملا: هل تتذكر عندما كنا في الجيش، من الذي كان ينال الترقيات؟ من ينقل أخبار زملائه إلى سادته، ألم تكن معنا عندما قبض على جارنا أبو هيثم لمجرد قوله الله يلعن أبو هذه الحالة، ولم يعد حتى الآن؟ هل تذكر عندما وقفت جارتنا المسنة أم عنود وهي تقول للعقيد الذي ضرب ابنها: حرام عليك يا ظالم، إنه طفل صغير، هل تذكر كيف انهال عليها العقيد ركلا بقدميه حتى ماتت، ولم يجرؤ أحد منا على الدفاع عنها؟ هل تذكر كيف كانت شقيقاتنا وبناتنا تنزع عنهن أغطية رؤوسهن جهارا نهارا ولا مجيب لمن تستغيث منهن؟ ماذا تريد أكثر من ذلك يا أبو عدنان، لقد عشنا حياة الذل حتى مللنا، وضاقت صدورنا بما تحبسه فيها منذ سنين، أتريد لأبنائنا أن يحيوا بنفس الذل وكسر الكرامة والسكوت عن الحق كما كنا؟ ألا يكفينا أنهم كذبوا علينا سنينا أن سورية بلد الصمود والتصدي؟ قل لي يا أبو عدنان، الصمود ضد من؟ والتصدي ضد من؟ ضد إسرائيل ؟ ولم تطلق رصاصة واحدة حتى خطأ ضد أي جندي إسرائيلي؟ لا في فلسطين، لمساعدة إخوتنا الذين يُقتلون كل يوم، ونحن صامتون صمت القبور، خائفون من السجن والتعذيب والقتل؛ ولا في الجولان التي نعرف كلنا ولا نجرؤ على القول أن حافظ هو من باعها وقبض الثمن، حكم سوريا له ولذريته من بعده، وكأنها مزرعة أبيه وجده، هذا الصمود والتصدي الذي صدعوا به رؤوسنا هو في الحقيقة صمود في وجه كل من يعترض على حكم العلويين، أما التصدي فهو كما رأينا من قبل في حماة؛ ونرى في أيامنا البائسة هذه؛ ضد كل من يطالب بإسقاط الرئيس، أوجعت قلبي يا أبو عدنان، ونظر حوله إلى الجميع قائلا بصوت مرتفع: أنا سوري وأفختر، أنا حر وبإذن الله سننتصر. سُمع صوت إطلاق النار من بعيد واحتمى الكل وراء جدران المخبز البلدي، اقترب واصف من أبيه يحتمي به، مرت الدقائق كالدهر، ثم سقط برميل البارود فوق السقف المتهالك محدثا انفجارا هائلا وانهار المخبز البلدي، وتطايرت أشلاء القتلى مع أرغفة الخبز في كل مكان، وتدافع من نجا للهروب بنفسه، همس الفتى لأبيه المغطّى بالدماء خائفا: هيا يا أبي هيا بنا نعود، نظر أبو واصف إلى ابنه وقال بصوت واهن: عد إلى البيت يا بني، ستجد تحت سريري صندوقا به بندقيتان، واحدة لك والأخرى لأخيك، واذهبا إلى أبو زاهر، قولا له: أبي يقول لك ضمني وأخي إلى صفوف الجيش الحر، لا تخف يا بني إن الله معنا سننتصر بإذن الله، وستعيش حرا كما تمنيتُ لك ولأخيك دائما، وأغمض عينيه..