ما كاد السؤال ينتهى حتى اندلعت قنابل الغضب فى مهرجان أبو ظبى من المنصة حيث كان يقف عليها المخرج التونسى الكبير نورى بوزيد، وتبدلت ملامحه الهادئة الوديعة ليتوجه بعنف إلى قطاع من الجمهور عبَّر عن معاناته فى فهم اللهجة التونسية. قدَّم نورى فى فيلمه «مانموتش» بمعنى نرفض الموت، مرثية ينضح بها الشريط السينمائى بكل الهواجس من هؤلاء المتطرفىن دينيا، الذين اعتقدوا أن الثورة اندلعت لكى ينقضّوا على الكرسى ليحكموا البلد ويتوجهوا مباشرة إلى الخطة رقم واحد وهى فرض الحجاب على النساء، كأن هذه هى أم المشكلات وبمجرد تغطية الرؤوس سوف تنتعش الحياة.
الفيلم فى الحقيقة يعزف على الكثير من أوتار الجراح العربية الغائرة التى عشناها قبل وبعد ثورات الربيع التى شهدت بدايتها من تونس.. يستحق فيلم نورى وقفة أظنها قريبة ولكن هذه المرة علينا أن نعود مرة أخرى إلى المربع رقم واحد، إلى ثورة الغضب التى فجرها المخرج التونسى الكبير بسبب صعوبة اللهجة وهى فى الحقيقة تتجاوز تونس إلى الجزائر والمغرب، حيث إن هناك صعوبة ولا شك فى تقبل اللهجات المغاربية يعانى منها أغلب المشاهدين من المشرق العربى.. رد الفعل الغاضب الذى يتكرر فى العديد من المهرجانات والتظاهرات يبدأ بجملة «ولماذا نحن نفهمكم وأنتم لا تفهموننا؟».
بسبب تلك النقطة الشائكة صار الاقتراب من هذه القضية أشبه بتفجير لغم مدفون تحت الأرض على مدى سنوات وقابل للاشتعال فى كل لحظة.. والحل هو الترجمة من اللهجة العربية المحلية إلى اللهجة العربية الثالثة، المقصود بتعبير الثالثة، المتداوَلة كثيرا فى الصحف التى تقف بين الفصحى والعامية ويطلقون عليها أيضا اللهجة البيضاء يستوعبها كل مواطن عربى. مهرجان أبو ظبى فى دورته الثالثة التى أقيمت فى شهر أكتوبر 2009 تجاوز الحساسية وتمت ترجمة اللهجة التونسية إلى العربية البسيطة فى فيلم «الدواحة السر المدفون» إخراج رجاء معمارى.. ليس الآن مجال الحديث عن تفاصيل الفيلم لكنى أتناول قضية الترجمة من التونسية المحلية إلى العربية البسيطة التى أتصور أنها قد لعبت دورًا إيجابيا لصالح معايشة تفاصيل الفيلم وتفهم مفرداته اللغوية الخاصة جدا، أى أن ما حدث فى مهرجان أبو ظبى فى تلك الدورة أراه غير مسموح به فى المهرجانات العربية الأخرى.. وكان هذا أحد محاور النقاش مع عدد من المخرجين والنقاد المغاربة، ولم تهدأ موجات الغضب التى تعلن عن نفسها وتحمل أيضًا إحساسًا بأن عرب المشرق يتعالون على لهجة أهل المغرب ولا يبذلون جهدًا فى كشف مفرداتها. الكل يُجمع على أن أفضل علاقة تقيمها مع العمل الفنى هى تلك التى تصلك مباشرة من خلال الشاشة بينما الترجمة بالتأكيد تخصم من روح الفيلم، أيضًا فإن المفردات المحلية والمغرقة فى دلالاتها البيئية تفقد الكثير من بكارتها اللغوية إذا حاولنا أن نعثر على مرادف عربى مماثل لها، إلا أننا فى النهاية أمام اختيارين أحلاهما مُرّ كل منهما يحمل فى داخله مرارة ما وأقلهما مرارة الكتابة مرة أخرى بعربية متداوَلة.. يقولون فى تونس والمغرب والجزائر: ألسنا جميعًا تجمعنا لغة الضاد لماذا يفهم التونسى مثلًا المصرية بل ويتحدث بها أحيانًا بطلاقة؟! والحقيقة أن اللهجة المصرية على سبيل المثال تعارف عليها العرب من خلال الأسطوانات قبل السينما والتليفزيون.. لعبت أم كلثوم وعبد الوهاب دورًا محوريا ورائدًا فى توحُّد العرب حول اللهجة المصرية وصاروا فى أحيان كثيرة يتحدثون بها فى تعاملاتهم اليومية.. الفيلم المصرى يحمل اسم العربى بينما أى دولة أخرى يُنسب الفيلم إلى البلد الذى ينتج الفيلم.. ولقب العربى ظل لصيقًا بالفنان المصرى ولهذا مثلًا يقولون سيدة الغناء العربى أم كلثوم، وسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة، وعميد الأدب العربى طه حسين.. الجمهور العربى لديه تراكم للهجة المصرية ولا ينبغى أن تتحول القضية إلى نوع من التنابز باللهجات.. ولا شك أن الأغنية الخليجية واللبنانية والسورية لعبت دورًا فى أن يتعايش الجمهور العربى كله مع الأعمال الدرامية التى تُقدمها تلك الدول بلهجاتها المحلية، كما أن المسلسلات التركية التى تمت دبلجتها لعبت مؤخرًا دورًا كبيرًا فى انتشار اللهجة السورية فى البيت العربى، ولكن أغلب مطربى المغرب العربى يقدمون على سبيل المثال أغانيهم فى مصر باللهجة المصرية ولهذا يشعر المصريون وأغلب عرب المشرق بقدر لا يُنكر من الصعوبة فى تقبل اللهجات المغاربية.. فلا ينبغى أن نعالج الحساسية بمزيد من الحساسية!!