جوهر النظام الديمقراطي هو «التداول السلمي علي السلطة» بين تيارات وقوي سياسية سلمية تطرح برامجها علي الشعب ليختار فيما بينها ويصوت علي اختياره في انتخابات دورية تتسم بالحرية والنزاهة، أياً كان طبيعة النظام هل هو «برلماني» أم «رئاسي» أم مزيج بينهما أو حتي إذا اختلفت طبيعته هل هو جمهوري أم ملكي أو أميري. وما يضمن استقرار الأوضاع وهدوء الحال وعدم التقلب الشديد بين البرامج والحكومات هو وجود سقف لذلك التداول علي السلطة ينظمه «الدستور» الذي هو أبو القوانين والمرجع الأعلي الذي يعكس قيم ومبادئ المجتمع ويحدد بوضوح المقومات الأساسية لأي مجتمع، ويرسم حدود الهوية العليا للوطن، وينظم العلاقات داخل الدولة، ويحدد السلطات الموجودة ويحقق التوازن فيما بينها حتي لا تطغي سلطة تنفيذية علي أخري تشريعية أو يتم سحق وتهميش سلطة لحساب أخري، ويضمن استقلال السلطة القضائية، وهذا الدستور يمكن أن يكون مكتوباً مدوناً كما هو الحال في معظم دول العالم الآن، أو عرفياً مستقراً في النفوس لطول الممارسة كما هو الحال في أم الديمقراطيات الغربية «المملكة المتحدة / بريطانيا»، ولذلك يكون للدستور مكانة سامية واحترام كبير فلا يجوز تعديله أو تعطيله أو إلغاؤه بإرادة منفردة لرئيس أو ملك، أو تقوم حكومة ما بنفس الجريمة الدستورية بتعديلات خطيرة حتي لو امتلكت الأغلبية الساحقة والتي ليست من طبيعة النظام الديمقراطي دون توافق مجتمعي بين جميع التيارات ولابد أيضاً من الرجوع إلي الشعب لأخذ رأيه أياً كان طبيعة الدستور هل هو جامد أم مرن، ولابد هنا من حفظ حقوق الأقليات كافة في صلب الدستور وعدم الاعتداء علي تلك الحقوق الأساسية. الدستور فوق القانون، والقانون فوق اللوائح، لذلك يحتل الدستور مكانة سامية عالية في «دولة القانون» أو «دولة الشريعة»، ولا يجوز العبث به أو التلاعب بنصوص مواده. والدستور هو ضمانة التطبيق الديمقراطي فلا يجوز تعطيله أو إلغاؤه وإلا حدثت ثورة شعبية. وهنا نأتي إلي أهم شبهة يرددها الإخوة الإسلاميون من التيارات التي تعترض علي بناء نموذج ديمقراطي إسلامي وتري أن الديمقراطية بدعة غربية تتيح للنواب المنتخبين تغيير أي قيمة أو مبدأ أو سلوك، ويضربون علي ذلك المثال النادر العجيب أنه من المتوقع إذا طبقنا الديمقراطية في بلادنا أن تبيح البرلمانات «الشذوذ الجنسي» أو تسمح «بشرب الخمور» أو تنظم «تداول الربا» إلي غير ذلك من الأمور التي لا تتفق وقيم مجتمعاتنا الإسلامية والعربية والتي يتم بالفعل حالياً السماح ببعضها كشرب الخمر وتداول الربا في ظل قانون سارٍ ورثناه عن الاحتلال الأجنبي لبلادنا، ونريد تغييره عبر الآليات البرلمانية، لماذا؟. لأن الآلية والوسيلة التي يمكن بها سلمياً معارضة تلك المخالفات الشرعية هي إحدي ثلاث وسائل تتيحها النظم الديمقراطية: 1- تشريعية: عن طريق حيازة الأغلبية البرلمانية، والحفاظ عليها حتي يمكنها سن القوانين التي تطبق الشريعة الإسلامية أو لا تخالف المبادئ والقيم الإسلامية أو التي تتفق مع الثوابت القطعية للشريعة الإسلامية. 2- قضائية: باللجوء إلي المحكمة الدستورية العليا برفع دعاوي بعدم دستورية مواد القوانين التي تخالف الشريعة الإسلامية. 3- سياسية: بحشد الرأي العام ضد هذه القوانين واستخدام الحوار الحر الصريح مع المؤيدين لتلك القوانين حتي يمكن حيازة أغلبية عادية تجعل تغيير الوضع العام ممكناً وبالتالي يمكن التأثير في النواب المنتخبين أو السياسيين التنفيذيين. هل يملك الذين يعترضون علي النموذج الديمقراطي وسائل أكثر كفاءة؟ في الحقيقة هم لا يملكون إلا إحدي وسيلتين أضرتا بالمجتمعات الإسلامية علي مدار القرون الماضية، وبالحركات الإسلامية في القرن الأخير أو نصفه المنصرم. الأولي: هي الانقلاب علي الحكام الطغاة من أجل امتلاك السلطة بالقوة لتحقيق أمل يراودهم في إحداث التغيير السريع كما فعل العسكريون من القوميين أو اليساريين.. إلخ.. دون أن يدركوا حقيقة ثابتة وهي أن امتلاك السلطة التنفيذية أوكل السلطات لا يمكن أن يؤدي إلا إلي تغيير شكلي أو سطحي فقط. أما الإخوان المسلمون فقد كان مؤسس الجماعة (1938) الإمام الشهيد حسن البنا واضحاً صريحاً عندما قال بعد عشر سنوات من تأسيس الجماعة في المؤتمر الخامس الذي انعقد في سراي آل لطف الله بالزمالك (فندق ماريوت الحالي): إن نظام الحكم الدستوري النيابي يتفق تماماً مع مبادئ الإسلام وهو أقرب النظم الحالية إلي الإسلام وأن الإخوان لا يعدلون به بديلاً وعندما كتب الأستاذ المرحوم «صالح عشماوي» في مجلة النذير قبل المؤتمر يدعو إلي تحطيم الدستور أو تعطيله قال البنا في نفس المؤتمر معترضاً علي ما كتبه الأخ صالح يقول بوضوح: 1- إن الإسلام يقر بوجود دستور مكتوب للدولة - وبذلك ينتفي اعتراض الذين يقولون بأن شعار «القرآن دستورنا» يضع الإخوان ضد الدستور - . 2- وإن الدستور الحالي في مصر آنذاك (دستور 1923) جيد وموضوعي ومحترم ويحقق أهم المبادئ الإسلامية في جوهره ومواده. 3- إن وجه الاعتراض علي الدستور إنما يكمن في أمرين فقط؛ أولهما: أن هناك غموضًا وتناقضًا بين مواد الدستور يحتاج إلي حسم وتوضيح، الثاني: عدم تطبيق الدستور نفسه وهي المعركة التي كان حزب الأغلبية الوفد يحارب من أجلها ضد الملك فؤاد وابنه فاروق من بعده في إطار تحقيق الهدف السامي «الاستقلال والدستور». الثانية: من الوسائل التي يعترض عليها الإخوة المحترمون من الإسلاميين الذين يعارضون النظام الديمقراطي هي «التأثير في الحاكم الفرد» أو إحاطته ببطانة صالحة تنصحه بالخير وتطبيق الإسلام وشريعته. هذه الوسيلة حدثت في التاريخ الإسلامي القديم في نموذج «رجاء بن حيوة» و«عمر بن عبدالعزيز»، وكان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه نموذجاً فريداً أعاد إلي المسلمين الأمل في العدل والرشاد والرخاء بعد سنوات عجاف من حكم «بني أمية» سالت فيها دماء أطهار أبرار مثل «الحسين بن علي» - رضي الله عنه وآل بيته الأطهار - و«عبدالله بن الزبير» - رضي الله عنه - أول مولود بالمدينة المنورة بعد الهجرة وابن أحد العشرة المبشرين بالجنة «الزبير بن العوام» و«أمه» أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه. هذا النموذج في التطبيق الإسلامي في عهد عمر بن عبدالعزيز سرعان ما تبدد الأمل فيه بعد وفاة الخليفة الراشد السادس الذي يؤكد بعض المؤرخين أنه مات مسموماً، وسرعان ما عاد بنو أمية إلي سابق عهدهم في الحكم الذي كان شعاره بالنسبة للمعارضة قول «الحجاج الثقفي»: «إني أري رءوسًا قد أينعت وحان قطافها» عندما دخل الكوفة خطيباً علي منبر مسجدها، أو قول القائل بين يدي «معاوية بن أبي سفيان» - رضي الله عنه وغفر له-: «من بايع يزيداً فله هذا (مشيراً إلي الذهب) ومن أبي فله ذاك (مشيراً إلي السيف)». وفي العصر الحديث كان النموذج الذي يستحضره الإسلاميون المتشككون في النظام الديمقراطي ما حدث مع «جعفر نميري» الرئيس السوداني الراحل الذي استعان في أواخر أيّام حكمه بالدكتور «حسن الترابي» الزعيم الإسلامي الشهير للحركة الإسلامية بالسودان منذ الستينيات حتي الآن، وأقنعه الترابي بتطبيق قوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية عُرِفت ب «قوانين سبتمبر» وما زال بعضها سارياً حتي الآن. والسؤال الملّح حديثاً هو أيضاً: لماذا اضُطِر الإسلاميون للقيام بثورة الإنقاذ في السودان بعد ذلك بأقل من عقد من الزمان رغم سريان تلك القوانين؟ ولماذا يضطرون الآن لما رفضوه من قبل من آليات ديمقراطية، وتقسيم للسلطة والثروة؟ ومشاركة في الثورة علي استحياء؟ ويقول بعضهم علانية أو سراً.. لو عاد الأمر إلي الماضي لما قمنا بانقلابنا وثورتنا، ولما شاركنا النميري أواخر أيّام حكمه، ومنهم الترابي نفسه. إذن وجود دستور محترم ينبثق من المبادئ والقيم العامة المستقرة في المجتمع الإسلامي وليس به تناقض ويحقق هدفه الرئيسي في استقرار الأوضاع وهدوء الحال ولا يمنع التطور الطبيعي للمجتمعات الإسلامية هو أول آلية ووسيلة لبناء نموذج ديمقراطي إسلامي. ومن أسف أننا لم نتطور طبيعياً لنحقق ذلك الأمل الدستوري، فاستوردنا فكرة الدستور من الخارج، ولم نرسخها في المجتمع ولم نفرض احترامها في بلادنا فأصبح الدستور شكلياً يتلاعب به الحكام، ثوريون أو ملوك، أو متغيراً حسب أهواء الساسة والحكام، وما التعديلات الأخيرة في مصر وغيرها منا ببعيد. وهناك اجتهادات قيمة لمفكرين إسلاميين ومسلمين لكتابة نماذج لدستور إسلامي يمكن عند وضعه موضع التنفيذ أن يتم تداول السلطة بطريقة سلمية بين أحزاب وتيارات سياسية يكون سقفها هو الدستور فلا يتصور أحد حدوث انقلاب علي القيم والمبادئ والثوابت الإسلامية القطعية التي ستكون هنا كما قال د. فتحي سرور قواعد فوق دستورية كالمادة الثانية من الدستور الحالي التي تقرر أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع وأن دين الدولة هو الإسلام.