قرأت ذات مرة لأحد الحكماء والذى نسيت إسمه الآن (وحتى لو كنت أتذكره ستنساه أنت): " تبدأ الفوضى عند نقطة النهاية لسلطة الدولة والقانون". ما مناسبة هذا الكلام المحبط؟ حقاً لا أتذكر!
أستيقظت ذات يوم مبكراً على غير عادتى (أم إن هذه عادتى؟) أتجهت من فورى إلى الحمام فوجدت المصباح مضاءً (يبدوا إننى نسيته فى زيارة ليلية) فاطفأته عند دخولى. ثم أدركت إننى أحتاجه فأشعلته مرة أخرى!
غسلت أسنانى وأخذت الدش اليومى، ثم توضأت (لأننى نسيت أن أنوى الوضوء قبل الإستحمام) وبعد خروجى إلى غرفة النوم لإحضار «بشكير» (نسيت أن أصطحب واحدأ عند دخولى) شككت إننى نسيت أحد أركان الوضوء فرجعت لأتوضأ مرة أخرى.
بحثت عن ملابسى التى أجهزها دوماً فى المساء قبل نومى (حتى لا أضيع الوقت صباحاً فى لعبة «التوافق» و«الهارمونى» أو «الإنسجام» بين ما سأرتديه) فلم أجدها! فأخرجت ما وجدته مناسباً من الدولاب، وأتجهت لغرفة المكتب لإرتدائه حتى لا أوقظ طفلى الصغير.
فى حجرة المكتب أكتشفت إننى لم أحضر «حزاماً» أو «شراباً»، فرجعت لغرفة النوم فلم أتذكر لون البنطلون أو الحذاء لأحضر «حزام» مناسب لهم، فأخذتهم جميعاً معى ورجعت لأكمل إرتدائى ملابسى. أين «الشراب»؟ بعد رحلة أخيرة لإحضار «الشراب» أخذت حقيبتى ونظارتى وأضعت القليل من الوقت فى البحث عن مفتاح الشقة ثم وجدته فى جيبى!. خرجت لأواجه العالم فى الحرب اليومية من أجل لقمة العيش (بشرط الوصول سالماً طبعاً) وعند باب السيارة لم أجد مفتاحها معى (يجب أن أتذكر يوماً ما أن أضم المفتاحين _منزل وسيارة_ لنفس الميدالية).
رجعت لإحضار مفتاح السيارة وعند خروجى من باب الحديقة تذكرت إننى لم أصلى الصبح أصلاً، فرجعت سريعاً وخلعت حذائى، وصليت حوالى خمس ركعات لأننى عند كل تسليم كنت أشك أنها الركعة الأولى!
خرجت أخيراً إلى السيارة متذكراً المفتاح، وانطلقت بها لمسافة قصيرة وأنا قلق وأشعر أن هناك شيئاً ناقصاً، فنظرت إلى المقعد الخلفى فلم أجد حقيبتى التى يوجد بها وسيلة عملى الأساسية (اللاب توب) فرجعت إلى المنزل وأحضرته، وبالمرة وجدت كيس الساندوتشات الذى نسيته على السفرة «فأنشكحت» مفكراً "رب ضارة نافعة".
خرجت لأجد «البواب» واقفاً بجوار السيارة ناظراً لى بعتاب ثم قال بلهجة لا تخلو من اللوم: "ماتعملش كده تانى يا بيه .. ولاد الحرام ماخلوش لولاد الحلال حاجة"
- ليه بس يا «رجب» إيه اللى جرى؟ - سيادتك سبت العربية دايرة ودخلت غبت جوه البيت! - يا نهار أبيض! معلش والله .. الواحد دماغه مش فيه.
- ولا يهمك يا بيه .. وعلى فكرة أنا إسمى «خالد .. أبو أحمد»، «رجب» مشى من سنتين فاتوا! ضحكت محرجاً: هههههه .. مش بقولك الواحد دماغه مش فيه يا «أبو أحمد».
ثم حاولت أن أكون لطيفاً لتعويضه عن نسيانه فقلت: "وإبنك «أحمد» عامل إيه؟" - إبنى مات السنة اللى فاتت يا بيه وحضرتك عزتنى فيه.
- إحم .. لامؤاخذة والله يا «خالد» .. والله الواحد .. أ.. أ..! حاولت ان أعتذر بكلمات خرجت مبهمة حتى بالنسبة لى فأنقذنى هو بفتح باب السيارة قائلاً بإبتسامة حذينة: - ولا يهمك يا بيه .. طريق السلامة. أنطلقت بالسيارة للمرة الثالثة (متمنياً أن تكون الأخيرة) لهذا اليوم _اللى باين من أوله_ وقبل خروجى من الطريق الفرعى للمحور الرئيسى فكرت أن أكلمهم فى العمل لأنبئهم بتأخيرى قليلاً، فبحثت عن الموبايل بحذر (حتى لا «أخيّش» فى أى سيارة أمامى) فى مكانه المميز فى «تابلوه» السيارة فلم أجده!
توقفت على جانب الطريق، وبحثت جيداً فى جيوبى فأخرجته وأتصلت بزوجتى (التى ردت بعد عدة محاولات لنومها فى هذ الوقت المبكربالنسبة لها)، وهتفت فور فتحها الخط: "أيوه ياروحى بقولك إيه" هى بصوت نائم: "إيه اللى جرى؟ .. قول!" - بصى كده شوفى «الموبايل» جنبك .. غالباً نسيته على «الكومودينو»! ردت بدهشة: "موبايل إيه؟ أُمال إنت بتتكلم منين؟؟؟"
أبعدت «الموبايل» عن أذنى وأنا أنظر له بذهول. أغلقت الخط بعد الإعتذار بكلام عجيب من المستحيل تمييزه، ثم واصلت الإنطلاق بالسيارة فى طريقى ولكنى لاحظت إن لمبة البنزين مضاءة معلنة أنه على وشك النفاذ، فعرجت على «البنزينة» الوحيدة المتبقية فى طريقى لملأ الخزان الذى يشبه فى حاله الآن أدمغة حكامنا.
ركنت أمام «الماركت» الملحق بالبنزينة، ودخلت لشراء علبة عصير وزجاجة مياه ورجعت للسيارة وأنا أحاول أن أتذكر "ما هو الشئ المهم الذى كان يجب أن أفعله؟ ولكنى فشلت"، وفى اللحظة الأخيرة عند خروجى من البنزينة تذكرت، فذهبت لماكينة الهواء لتظبيط الضغط فى إطارات السيارة قبل إنطلاقى إلى المحور.
جائتنى فكرة رائعة لمقال جديد ولكنها لم تلبث فى عقلى إلا ثوانى حتى تبخرت، وفشلت تماماً فى أن أتذكر ولو قبس منها، ثم رأيت حادث على الطريق أوحى لى بفكرة لكاريكاتير جديد أنمحى من ذهنى تماماً بعد دقائق! ماذا يحدث لى؟ ولماذا أصبحت ذاكرتى تشبه العدم؟
هل هى الضغوط؟ القلق؟ الإجهاد؟ التلوث؟ أم هو السن؟ ولكنى فى الثلاثينيات؟ إحتمال «السن» إحتمال كارثى، وإلا فكيف سيكون حالى فى الستينيات أو السبعينيات (بالطبع لو وصلت لها ولم أذهب قبلها لأمارس رياضة الغطس فى شرم الشيخ ناسياً أنبوب الأوكسيجين)؟ فتحت الراديو لأسمع أخر أخبار الكوارث والخراب القادم على يد نظام الإخوان الحاكم، فسمعت خبراً عن موعد الإستفتاء على الدستور الجديد أخر شهر أكتوبر، وهو الموعد الثالث الذى يتم وضعه، وأنا أكيد أنه سيؤجل لتاريخ آخر، فى حالة لو لم يأتى حكم المحكمة بحل الجمعية التأسيسية لدستور الظلام، فيعيد «مرسى» تشكيلها بنفس الأعضاء كما وعد أو هدد، ونستمر للأبد فى نفس الدائرة الجهنمية والمستفيد الوحيد هم الإخوان ومن والاهم. قرأت ذات مرة: "إن الإكتئاب وعدم الإحساس بالأمان يؤدى لضعف الذاكرة". لو صح هذا لكنا شعباً مصاباً بفقدان الذاكرة وليس ضعفها. ولكن.. أليس هذا صحيحاً؟
وإلا كيف وصلنا لهذا الوضع السريالى ولماذا فعل الناس هذا بأنفسهم؟ ألم يتم خداعهم مرة عند إستفتاء مارس الشهير ثم أعيد خداعهم فى مجلس الشعب ومن بعده الشورى ثم فى إنتخابات الرئاسة؟ المؤمن لا يلدغ مرتين فكيف بثلاث أو أربع؟؟؟ ألم ننقلب على «مبارك» بسبب «كامب ديفيد» و«تصدير الغاز» و«القروض» و«قانون الطوارئ» و«الإنبطاح» للأمريكان واليهود وأمراء الخليج؟ أليس هذا ما يحدث الآن؟ هل الجميع ينسى أو مصاب بالزهايمر المبكر مثلى؟ أم هى الرغبة فى العند يدفعها «لاوعى جمعى» يرفض الإعتراف بأنه أخطأ الإختيار! أنا أنسى مفاتيح السيارة أو الحقيبة أو الساندوتشات، ولكن داخل تلافيف ذاكرتى حفرت ولم ولن أنسى أبداً من تحالف مع العسكر ومن باع دماء الشهداء. كيف نسى الناس من وعدوهم بالأمان فلم يعرفوه، من وعدهم بالإستقرار ولم يروه، من وعدهم بعودة السياحة ثم حول سيناء لما يشبه إقليم «بلوشستان» وساحة حرب بين الجهاديين والجيش، بل وحتى الوعد بالحكم بشرع الله لم يشهدوه! ماذا يريدون إذن؟ أين وعود المائة يوم؟ والرخاء والنهضة المنتظرين؟ أين مساجين الثوار، وضباط 8 أبريل، ومحاكمة من ألقوا بجثث الشهداء فى القمامة، ومن هتك عرض بناتنا على مسمع ومشهد من العالم أجمع؟ أين تطبيق الحد الأدنى والأعلى للأجور؟ ولماذا الإبقاء على النائب العام؟ أين تطهير القضاء والشرطة؟ لاحظت الآن إن لمبة البنزين مضاءة!
يبدو إننى نسيت رغم دخولى البنزينة أن أموّن! لقد نسيت! لكن أين العيش.. والحرية.. والعدالة الإجتماعية؟ هذه أشياء لا تنسى!