في فيلم " طريد الفردوس " وهو عن قصة فلسفية شديدة الروعة للكاتب الكبير توفيق الحكيم وكان من بطولة فريد شوقي .. كان الشيخ عليش رجل بركة .. عاش حياته ومات دون ان يرتكب خطيئة واحدة أو اثما يُحاسب عليه. عاش طيلة عمره في كهفه منعزلا عن العالم يصلي ويصوم ويسبح ربه والناس تتبارك به إلى أن جاء أجله ومات. حزن عليه الناس كثيرا ، وأصبح المكان الذي كان يتعبّد فيه مقاما يزوره محبوه من حين إلى حين. راجل زي الفل .. وهو يعرف ذلك عن نفسه تماما ، وعندما صعدت روحه إلى السماء ، ذهب بثقة غير مسبوقة إلى الجنة وهو يدرك انه داخلها.. داخلها .. فإن لم يدخل الشيخ عليش الجنة .. من إذن يكون؟ .. لكن المفاجأة التي أذهلت الشيخ عليش ان اسمه غير مدرج بين من سيدخلون الجنة .. واحتار الرجل .. هنا فقط .. إما الجنة وإما النار .. واسمي ليس في كشوفات الجنة .. فهل يُعقل أن أجده ضمن من سيدخلون النار؟ ..
وكانت المفاجأة الثانية حين ذهب إلى النار مرتعشا متوجسا خيفة .. انه لم يجد اسمه أيضا هناك .. فوقف غير مصدق محتار في أمره ويقول : لا الجنة قابلاني ولا النار عايزاني .. اعمل إيه دلوقتي .. ابات في الشارع؟!
فسمع صوتا يناديه دون أن يراه ودار بين الاثنين " عليش والصوت " هذا الحوار الفلسفي شديد الابداع : الصوت: ماذا بك يا رجل.. وماذا تقول؟ عليش : انا الشيخ عليش ولي من أولياء الله الصالحين .. معملتش غلطة واحدة في حياتي وجي بقلب جامد ادخل الجنة .. فلم أجد اسمي. الصوت : وماذا عن النار ؟ عليش : أيضا ذهبت إلى هناك ، فلم أجد اسمي! الصوت: ولما الدهشة والغرابة؟ عليش : يا سلام .. حضرتك شايف مفيش مشكلة .. مت وتركت الدنيا ..لا انا طايل الجنة .. ولا دخلت النار. الصوت: لأنك ببساطة لم تُختبر وتنجح في الاختبار عليش : لم اخُتبر .. يا سيدنا بقولك معملتش ذنب واحد في حياتي. الصوت : لأنك لم تتعرض أو تصادف رذيلة .. وابتعدت بإرادتك عنها .. لم تر الخطأ وتجنّبته. عليش : مش فاهم حاجة الصوت : أنت لم ترتكب فاحشة الزنا في حياتك .. صح؟ عليش : وكتاب الله ماحصل .
الصوت : لأنك لم تصادف امرأة ذات منصب وجمال تدعوك فقلت إني أخاف الله .. بمعنى لم تجرّب هذا الأمر حتى تعرف يقينا أن قوة إرادتك وإيمانك أقوى مليون مرة من الوقوع في الخطيئة.. فكيف أحكم على قوة عزيمتك مفترضا فقط انك لو صادفك هذا الأمر.. لامتنعت.
وراح الصوت يكمل : هل استجار بك احد فمددت يدك إليه ؟ .. هل حكمت بين اثنين فنصرت المظلوم وقهرت الظالم؟ .. هل حكمت فعدلت فأمنت فنمت مثل الفاروق عمر؟
عليش وقد زادت حيرته : يا سيدنا .. انا طول عمري ماليش دعوة بحد .. بعيد عن الناس .. عايش في كهف لحالي معرفش إيه اللي بيجري بره هذا الكهف.
الصوت : وهذه هى مشكلتك .. لم تعش حياتك بشكل طبيعي.. لم تختلط بالناس .. لم تر الفساد ومنعته .. وربما لو رأيته لانزلقت قدماك.. لم تحتك بأحد .. قابع في كهفك وعالمك الضيق المحدود.. فكيف تطمع في جنة الرحمن ، دون ان تنجح في الاختبار؟
ثم قال له : انزل مرة أخرى الى الدنيا واخرج من عالمك الضيق وعاشر الناس ، وتعامل معهم وسوف ترى العجب وهذا هو الاختبار الحقيقي .. فإذا جاء أجلك بعد هذه الرحلة ، فثق انك لن تقف هذا الموقف مرة أخرى .. لا جنة.. ولا نار.
معنى فلسفي جدا وربما يصعب على البعض استيعابه.. لكنه المنطق بعينه .. والإخوان المسلمون كانوا مثل الشيخ عليش طيلة 82 عاما .. منعزلون في عالمهم المحدود وكهفهم الضيق .. تحكمهم وتتحكم فيهم أفكار بالية يحدّدون من خلالها مسارهم .. لذلك تعثروا في حياتهم كثيرا .. لا لان الأخر هو الجاني والمتجني.. ولكن لأنهم هم أنفسهم متخبطون.. لا يدركون المعاني العامة الشمولية .. " حابسين نفسهم " في مفهوم واحد لا يحيدون عنه معتقدين " على طول الخط " أنهم على صواب.
والرئيس د- محمد مرسي واحد منهم .. ليس مجرد نفر، لكنه من المؤثرين في الجماعة .. المنغمسين دوما معهم .. حبيس أفكارهم العقيمة .. منذ أن كان شابا ، إلى ان صار فوق الستين ورئيسا للجمهورية .. هو منهم وهم منه .. وكلهم كانوا مثل الشيخ عليش .. لم يتركوا كهفهم .. " حتى لا يختلط الأمر على القارئ .. اقصد تحديدا معتقداتهم وأسلوبهم وسلوكهم الذي اعتادوه منذ نشأة الجماعة" .. فظني والله أعلم لو جاء أجل محمد مرسي قبل تولي الرئاسة ، فسيقف نفس موقف الشيخ عليش .. لا الجنة ستقبله ولا النار أيضا .. وسوف يُطلب منه آن ينزل إلى الأرض مرة أخرى .. وها هو قد فعلها وخرج من عالمه الضيق المحكوم بأفكار قديمة ، إلى عالم أوسع وأكثر رحابة .. في اختبار حقيقي له ، سيحدد اذا ما حانت ساعته هل الى الجنة يذهب أم ستكون النار مثواه وبئس المصير؟.
الرئيس مرسي في اختبار صعب ومحك أصعب .. سوف يُفتتن بالسلطة والمال والعزوة.. فماذا هو فاعل ؟ .. هل سيُرضي لله ويخافه ام سيُرضي فضيلة المرشد وجماعته .. ظني حتى هذه اللحظة انه يفعل الثانية.
.. هل سيرفع الظلم عن المظلومين ؟ .. وهذا اختبار أخر له .. وحتى هذه اللحظة رسب فيه .. فحين فكر في الإفراج عن مسجونين .. أخرج وعفا عن ناس من جماعته ، قتلوا ونصبّوا من أنفسهم قضاة يحكمون حسب أهوائهم وما يعتقدونه : هذا يستحق الموت .. وهذا لابد له ان يعيش .. لم يُفرج عن شباب الثورة ووقودها بحجة واهية وغبية أيضا : مش عارف مين الثوري .. ومين البلطجي .. هكذا قالوا له وصدقهم .. او لنقل هو يريد ان يصدّقهم!
مائة يوم مروا او كادوا .. ولم يفعل مرسي شيئا يُحسب له إلا الإطاحة بالمجلس العسكري .. وعلى قدر فرحتنا بهذا الأمر الجلل ، إلا ان مرسي نفسه حين اتخذ قراره لم يكن في ذهنه مصلحة مصر وأهلها ، ولكن لغرض ما في نفسه وعند جماعته.
.. لم ينظف مرسي الجهاز الشرطي - اقصد الداخلية - لكنه أبقى علي هيكله القديم ، وهو يعلم جُرمه .. وكما قال د - علاء الأسواني في حوار تليفزيوني : الريس مرسي يعلم تماما ما فعله ضباط الشرطة أثناء حكم مبارك .. وهو نفسه أحد ضحاياهم .. لكنه أبقى عليهم .. وكأنه يعقد معهم صفقة : سوف أغمض عيني عما فعلتم ، مقابل ان تؤمنونني جيدا .. وتصبحون من الآن ذراعي اليمين الذي اذا ما أردت البطش به .. أجده اقوى مما أتصور .. ولا يخذلني او ينقلب ضدي.
واختبار رابع امام د - مرسي .. هو يعلم علم اليقين ان اللجنة التأسيسية للدستور غير أمينة في توجهاتها وليست مصلحة مصر وشعب مصر أمام عينيها .. ومع ذلك يغض الطرف عنها ، كما لو انه ينأى بنفسه عن التدخل من فرط النزاهة .. غير ان الحقيقة غير ذلك بالمرة.
أهو كام حاجة في ال 100 يوم فشل فيها د - مرسي بمجرد أن خرج من كهف الشيخ عليش .. وزي ما بنقول النفس بيخرج ويعلم ربنا حيرجع تاني ولا لأ .. يعني في لحظة يأتي الموت.. وتصعد الروح إلى السماء.. وان كان الشيخ عليش حظه حلو انه لا دخل الجنة ولا النار ونزل الدنيا تاني ليُختبر الاختبار الحقيقي .. فأخشى ما أخشاه على الريس مرسي ، اذا حانت لحظته الآن ان يحسد الشيخ عليش على ما صادفه من موقف .. " لا جنة ولا نار " .. لكن في حالة مرسي مفيش رجوع .. انسي .. دخلت الامتحان ورسبت فيه .. ولأنك كنت حاكما .. فسؤالك أوجب وحسابك أعظم .. وأنت بقى وربك .. يدخلك الجنة .. تروح النار .. وحده سبحانه هو الذي يقرر .. وما علينا سوى التأمل والانتظار.