صنايعية مصر «كل أربعاء» من حسن حظنا أن الدكتور محمد المخزنجى حصل على الاختصاص العالى فى الطب النفسى عقب تخرجه فى طب المنصورة، هكذا امتزجت الموهبة بالعلم فصارت كتاباته تشق طريقها إلى عمق الروح دون حرف واحد زائد عن الحاجة، أَضِف إلى ما سبق تركيبة إنسانية فريدة، امتزج فيها الرقىُّ والحياء بروح المحبِّ لبلاده، فأصبحنا نمتلك «صنايعى» أصيلا ومتفردا فى عالم الكتابة.
عندما زرته فى بيته كنت أشعر بأُلفة البيوت التى تربى فيها الواحد، وكنت ألتقط من كلماته ما يصلح كمفتتح لدراسات مطولة، عن النيل، قال إن الحظ أسعده بمتابعة رحلة النيل من بحيرة فيكتوريا حتى مصر، ورأى كم أنه مثابر فى قطعه لرحلة قاسية تمر بعشرات المستنقعات والأراضى الوعرة، حتى يصل إلينا على الطبطاب كمنحة سماوية، ثم تساءل: كيف تعاملنا مع هذه المنحة؟ ويجيب: لقد تفنَّنَّا فى إهانتها.
سألته عن التغيير، فقال تغيير طريقة الإدارة والتفكير قبل الأشخاص، وضرب مثلا بموضوع النظافة، قال إنها قيمة مفتقدة فى حياتنا وهى تطبيق حقيقى لسيكولوجية الزحام، فالزحام حتى فى مجال حيوانات التجارب يغير كل شىء فيطرد النظافة ويفرز الصراع والتحفز والكره المضمر، وقال: النظافة فى شوارعنا وحياتنا لن تتحقق بعقود الشركات الأجنبية وزيادة عدد الكناسين والزبالين، أقل ما يمكن فعله أن نعيد توزيع الكتلة السكانية الضخمة المتكدسة فى الوادى، هذا التكدس الذى زرعه النظام السابق، لأنه لم يكن معنيًّا بتنمية الروح المصرية، وقدم إليها كل ما يساعد على تآكلها.
قلت لنفسى هكذا يفكر الأدباء الكبار، فوجدته يقول: لا بد من الاستعانة بأفكار غير المتخصصين للوصول إلى حلول غير تقليدية، فى كل دول العامل المتقدمة، عندما يحين وقت الدراسات الاستراتيجية المهمة يتم الاستعانة بالأدباء والفنانين، ويعرض عليهم كل المعطيات ويطلب منهم تقديم سيناريوهاتهم المتخيَّلة لعلاج الأزمة، هذا عُرف الدول الكبيرة التى توقن أن الخيال لا يقل أهمية عن المعرفة.
المخزنجى كاتب القصة، كان صديقا قريبا جدا من الراحل يوسف إدريس، وكان حياؤه يمنعه من إخباره بأنه يكتب القصة، كان يكتفى بالقرب منه كمحب، إلى أن عرف إدريس بالصدفة حقيقة الأمر، وفوجئ بما يكتبه المخزنجى، فقال نصا إنه فى كوم وبقية كُتَّاب القصة فى كوم.
تذكرت هذه القصة فقلت له: الدولة لا تعرف قيمة العظماء إلا بعد رحيلهم، فقال: ولا حتى بعد رحيلهم.. فعندما نفقد واحدا منهم نقابل الفقد بزيطة وليس تأبينا، تقدر تسميه «هلولة تأبين» وبعدين بيتنسى عادى، الدولة تُمعن فى موتهم من جديد، عندك مثلا تشيكوف أبو القصة فى العالم، تحول بيته إلى متحف ملحق به معهد لدراسات القصة، يقيم دورة سنوية لتقديم دراسات جديدة عن إبداعه.. هذا إحياء حقيقى.
قلت له: الموهوبون لا يحصلون أيضا على ما يستحقونه، فقال: الفساد يَحُول بينهم وبين وصولهم إلى الأماكن التى يستحقونها، وهذه مشكلة لن يتم حلها إلا بأن يقف المجتمع كله فى كل مكان ضد أنصاف الموهوبين، قلت له: وما الذى يعيق ذلك؟ فقال: النفاق والموالسة والمحسوبية.
«إن كنت تريد التعرف إلى المخزنجى عن قرب أوصيك بقراءة (رشق السكين) و(حيوانات أيامنا) و(لحظات غرق جزيرة الحوت) وكتاب الرحلات (جنوبا وشرقا)، بخلاف مقاله الأسبوعى فى جريدة (الشروق)».
قلت له: إن مقالاته الأخيرة صارت تبتعد بالتدريج عن السياسة فقال: أقلعت عن الهجاء السياسى -الذى كان مطلوبا بشدة فى إحدى الفترات- لأننا انتقلنا من ثورة الصفوة بمعنى صفوة الحس والعقل والضمير إلى هوجة العامة، ولا أقصد بالعامة الغلابة، هناك أستاذ جامعة أو قيادىٌّ ما وتشعر أن تفكيره تفكير عوام ولغته لغة عوام، لا فكرة محلقة ولا جملة لامعة ولا رؤية ثاقبة، لقد انحدرنا إلى هذه الدرجة، وصارت الأغلبية لا تنظر إلا إلى أسفل قدميها.
يقول الدكتور المخزنجى: «المشكلة تكمن فى الإلحاح على طلب القوة دون الحق، والتنازع على اختطاف أكبر قطعة من كعكة الحكم، لا التوافق على تكريس أعظم قدر من الحِكمة لجبر خاطر هذه الأمة المكلومة».