يبدو أن العالم كله يخطو نحو الديمقراطية والحرية إلا نحن، ما زلنا مُصرين على التمسك بتلابيب الماضى، قبل ساعات نشرت هيئة الإذاعة البريطانية «بى بى سى»، خبرًا يقول إن «وزير الداخلية الجورجى شوتا خيزانيشفيلى، استقال من منصبه بعد تسرّب مقطع فيديو أظهر وجود عمليات تعذيب فى السجون الجورجية»، وأظهر الفيديو الذى تسرَّب من سجن «جلدان»، فى العاصمة تبليسى، جنودًا يُعذِبون مساجين، وتظاهر المئات من المواطنين فى وسط تبليسى، احتجاجًا على التعذيب، رغم الإصلاحات التى طرأت على هذا الجهاز بعد الثورة الجورجية عام 2003، والتى أدّت إلى تحويل كل المبانى التابعة لوزارة الداخلية، بما فيها أقسام الشرطة، إلى مبانٍ زجاجية تُمكِن المارة من رؤية كل ما يحدث فى الداخل. هذا الخبر يوضح أن كشف حالة تعذيب كفيل بإقالة وزير الداخلية، وأن الثورة الجورجية استطاعت أن تحوِّل مبانى الداخلية إلى مبانٍ زجاجية تكشف للمارة ما يحدث داخل الأقسام، وأن بلاد الواق واق بإمكانها أن تتقدم وأن تتخلص من إرث الماضى إلا عندنا، فما زال التعذيب هو السياسة المتّبعة فى وزارة الداخلية، وكأن الثورة لم تقم، وكأن شيئًا لم يحدث فى مصر. إن ما حدث فى مصر خلال الفترة الماضية يكشف أن عقيدة الداخلية القائمة على التعذيب لم تتغير، وما حدث مع المهندس محمد فهيم خير دليل على هذا، وما يؤكد أن وزارة الداخلية عادت لتنتقم، لا لكى تُعيد الأمن والأمان والانضباط، كما أن رغبتها فى إزالة رسوم الجرافيتى من على جدران شارع محمد محمود تكشف عن هذا، وما قاله اللواء إسماعيل الشاعر بعد محاكمته أن الداخلية ستعود أقوى من الأول، وما حدث من فض اعتصام طلاب جامعة النيل بالقوة يؤكد أن الداخلية لن تتغير. وبعيدًا عن بورتو طرة الذى نسمع عنه لرموز النظام السابق، فباقى المساجين ما زالوا يعانون أكثر من ذى قبل، وحسب تقرير حقوقى أعدّته جمعية أطباء التحرير وعدد من المراكز الحقوقية كشف «استمرار إدارة سجن طرة فى إجبار المحتجزين الجنائيين على شرب محلول الماء والصابون بعد الزيارات لإجبارهم على التقيّؤ والإسهال»، وأشار البيان إلى أن الظروف المعيشية داخل السجن تفتقر إلى الحد الأدنى من مراعاة الصحة النفسية والجسدية للمحتجزين، نظرًا إلى الازدحام الشديد فى العنابر ونقص التهوية، مما يساعد على انتشار الأمراض والأوبئة بين المساجين، وكذلك لقِصر فترات التريض خارج العنابر وأحيانًا إلغائها، مما له بالغ الأثر على صحة المساجين النفسية والوظائف الحيوية لأجسادهم، كما أن الخدمة الصحية داخل السجن تعانى من قصور واضح فى عدد الأسرة بالنسبة إلى عدد المساجين ونقص فى الأجهزة والتخصصات المختلفة المطلوبة لعلاج ومتابعة نوعيات الأمراض المختلفة التى يعانى منها المساجين، وطبعًا مقارنة ما فات بما يلاقيه رموز النظام السابق يكشف حقيقة الوضع. وهناك أيضًا حوادث التعذيب والانتهاكات التى عادت بفجاجة، ومنها ما كشفته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية باتهامها عددًا من ضباط قسم شرطة مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية بقتل وتعذيب وإصابة مواطنين مساء «الأحد» 16 سبتمبر، وفجر «الإثنين» 17 سبتمبر. وطالبت المبادرة المصرية بالتحقيق الفورى فى الوقائع، ووقف الضباط المتهمين عن الخدمة إلى حين الانتهاء من التحقيقات. ووصف باحث بقسم العدالة الجنائية الواقعة ب«المزعجة للغاية»، «خصوصا عندما نضعها جنبًا إلى جنب مع حوادث عدة مماثلة نتج عنها قتلى نتيجة لعنف الشرطة فى الأشهر الأخيرة. وهذا النمط من الحوادث يوضح أن قوات الشرطة فقدت أى احترام للقانون وللكرامة الإنسانية، وتتعامل مع الشعب باعتباره عدوًّا يجب فرض السيطرة عليه، ولو بالقتل العمد، وليس بوصفه صاحب حق يجب توفير الأمن له. فى اليوم نفسه نشهد عملية قبض عشوائى باستخدام العنف المفرط من قِبل ضباط القسم، ثم يعذب أحد أبناء القرية حتى الموت داخل القسم لمجرد محاولته تحرير محضر، وتستمر الانتهاكات الجسيمة بقتل وإصابة اثنين لا يحملان سلاحًا بدم بارد ومع سبق الإصرار والترصد». الرسالة التى يجب أن يدركها مَن يقومون على جهاز الشرطة تتمثل فى «إن عدتم عدنا»، فالداخلية وما كان يجرى فيها كان أحد الأسباب الرئيسية لقيام الثورة، وهذا ما يجب أن لا ينسوه أبدًا