قبل نحو عام وأنا أقلّب صفحات جريدة «أخبار اليوم» استوقفنى أن الزاوية التى كان يكتبها الكاتب والناقد الكبير أحمد صالح، على مدى تجاوز 7 سنوات، لم تُنشر، كنت أتابعها لأرى من خلالها ومضات من الزمن الجميل، حيث كان أحمد صالح حريصًا على أن يمزج بين المعلومة المجهولة والحكاية المثيرة.. سارعت بالاتصال به، فاجأتنى إجابته وهى أن بعض الزملاء فى جريدة «أخبار اليوم» قالوا إن جحا أولى بلحم توره، وأن أحمد صالح ابن جريدة «الأخبار» -ملحوظة يكتب على صفحاتها منذ أكثر من 50 عامًا- فلا يحق له الكتابة فى «أخبار اليوم»؟! صدمتنى الإجابة، لأول مرة أعرف أن «أخبار اليوم» تعتبر أن كتّاب «الأخبار» غرباء عنها، وفاجأنى بأن رئيس التحرير الذى لم يكن قد مضى على تعيينه بضعة أسابيع طلب مباشرة من الزميل العزيز مجدى عبد العزيز رئيس القسم، أن يبلغه بقراره. وتعجبت لأن سمير صبرى كان ينشر بانتظام على صفحات الجريدة ولم يعترض أحد.. هل لم يدرك رئيس التحرير أنه يعاقب القرّاء قبل أن يعاقب أحمد صالح، وبعدها شعرت أن هذا القرار أثّر كثيرًا على الحالة الصحية والمزاجية للأستاذ أحمد. كان أحمد صالح هو رفيق العديد من رحلاتى خارج الحدود، خصوصا إلى مهرجان «كان».. سبقنى الناقد الكبير إلى «كان» ربما بعشرين عامًا، ولكن على مدى خمسة عشر عامًا كنا نلتقى يوميًّا، إلا أنه قبل ثلاث سنوات قال لى إنه يجد صعوبة فى الحركة، ولكنه سوف يحضر إلى المهرجان وهو يتّكئ على عصا وهو يخشى أن يراه الزملاء على هذا النحو، قلت له إن المخرج مانويل أوليفييرا، 108 أعوام، الذى يعتبر أحمد صالح فى عمر أحفاده شاهدناه على مسرح فى مهرجان «كان» وهو يرفع عصاه وكاد يرقص بها، واقترحت عليه مازحًا أن يفعل ذلك.. جاء إلى «كان» رغم صعوبة التحرك، ولكنه ينتظم فى العروض، وفى رحلة العودة قلت له إنى أريد أن أكتب عن إصراره على المتابعة، رجانى أن لا أفعل.. كانت لدى الأستاذ أحمد قناعة بأن البعض سوف يرى الوجه السلبى للكلمة وهو أن عليه أن يكتفى بهذا القدر وينصحه بأن لا يسافر ثانية ولم يفعلها مع الأسف ثانية. وتضاءلت تمامًا قدرته على الحركة، وبين الحين والآخر كلما اتصلت به يخبرنى أنه يحاول أن يؤجّر استوديو قريبًا من مهرجان «كان» لسهولة التحرّك، ثم استسلم لقيود المرض وكان يقول لى إنه يحاول أن يتغلب على معاناته النفسية بالكتابة، وكان يكتب على صفحات جريدة «الأخبار» يوم الأربعاء فى صفحة السينما التى أنشأها قبل 45 عامًا. كانت هذه الصفحة، خصوصا قبل صدور الصحف المستقلة والفضائيات، هى عنوان السينما فى مصر، وبين الحين والآخر كان يجدد فى تبويبها ويضيف بابًا لاذعًا، مثل «زووم» الذى صار عنوانًا لأشهر برنامج فى التليفزيون، يعده أحمد صالح، وتقدمه سلمى الشماع. كان أحمد صالح فى أثناء دراسته للحقوق عاشقًا للصحافة وكتب فى «الأخبار» فى زمن مصطفى وعلِى أمين، ودرس السينما فصار يجمع بين الكتابة الصحفية والنقدية والسينمائية. قال لى إنه وهو طفل كان يقرأ ليوسف السباعى الذى كان ضابطًا فى سلاح الفرسان، وكتب له رسالة يقول فيها إن مصروفه لا يكفى لشراء كل قصصه، وكانت المفاجأة بعد بضعة أيام أن طرق بابه غريب، واكتشف أنه يوسف السباعى، وهو يرتدى الملابس العسكرية يحمل له عددًا من كتبه. ومر زمن قصير ليلتحق بآخر ساعة صحفيًّا ويقدم إلى الإذاعة أشهر رواية ليوسف السباعى «نحن لا نزرع الشوك»، وتتحول إلى فيلم لتصبح أيضًا أول أفلام أحمد صالح. وفى مشواره يقدم العديد من الأعمال الفنية إلى السينما مثل «الشيطان يعظ» لنجيب محفوظ.. وكان الأستاذ أحمد صالح يضع خطًا فاصلًا بين الناقد والصحفى والكاتب السينمائى، أتذكر قبل عشرين عامًا كتبت نقدًا لاذعًا، تناولت فيلمه «دموع صاحبة الجلالة»، كان عنوانه «نشنت يا فالح» والتقينا فى عرض خاص وتعمدت أن أبتعد عنه ويبدو أنه لاحظ ذلك، وقال لو جاز لى أن أكتب عن الفيلم لكتبت مقالًا أشد سخرية من «نشنت يا فالح». قبل أيام رحل أحمد صالح ولم تنصفه الصحافة، حتى جريدة «الأخبار» لم تضع خبر رحيله إلا فى صفحة داخلية