«بيعة المقابر» التى جعلت مشهور مرشدًا! واصل حبيب، أمس، مذكراته، كاشفا عن التخوفات التى وسط الإخوان من تولى مصطفى مشهور، منصب المرشد العام، بعد اشتداد المرض على التلمسانى، واستقرار الرأى على اختيار أبو النصر مرشدا للجماعة.. لتاريخه المشرف وجهاده الذى لا ينكر، وقال حبيب إنه أبلغ أبو النصر باختياره مرشدا فعلق قائلا: إذا كان اختياركم وقع على أبى النصر.. فهو النصر إن شاء الله. وحكى عن قول أبو النصر إنه لن يتحمل مسؤولية الإرشاد سوى إخوان مصر، لأنهم الذين يحددون من يتولى منصب المرشد، ثم دفاع أبو النصر دافع عن حق إخوان مصر -مهد الدعوة- فى الاختيار وتحديد المرشد العام للإخوان. دون الانتقاص من حقوق الآخرين.. مصر بتاريخها ودورها المحورى والاستراتيجى هى القاطرة التى يمكن أن تشد من خلفها العالم العربى والإسلامى لقد ترك الأستاذ عمر التلمسانى أثرا لا يُمحى، فقد استطاع أن يذود عن الدعوة بمواقفه وخطبه وقلمه، وأن يعيد إليها رونقها وبهاءها وطهرها ونقاءها.. كان يتحرك على جميع الأصعدة والمستويات. فى عهد الأستاذ محمد حامد أبو النصر، خاض الإخوان انتخابات مجلس الشعب المصرى عام 1987، بالتحالف مع حزبَى العمل والأحرار، حيث فازوا ب36 مقعدا وكان هذا المجلس (1987-1990) من أفضل المجالس النيابية على الإطلاق، وكان أداء الإخوان فيه رائعًا. فى عهده أيضا جرى احتلال العراق للكويت وحدوث حرب الخليج الثانية، ومؤتمر مدريد للسلام(!)، ودخول مصر فى مسلسل الإرهاب ودوامة العنف الدموى، الذى استمر حتى مذبحة الأقصر عام 1997، أى بعد وفاة الأستاذ أبو النصر بعام.. وكان الرجل ثابتا، صلبا، مقاوما، لم يهن ولم يلن، وظل شامخا إلى أن توفى -رحمه الله- عام 1996، وكنت وقتها فى السجن. على الرغم من جدية وجندية الأستاذ محمد حامد أبو النصر، فإنه كان صاحب طرائف، فقد كان -رحمه الله- مشهورا بالكرم والجود، وله فيهما مواقف لا تُنسى، فى السجون وخارجها، ويكفى أن نقول إننا حينما كنا نذهب إليه، أعضاء المكتب الإدارى بأسيوط أو بعض أعضائه إلى مقره بمنفلوط، كان يولم لنا ولائم ضخمة، تقبع على قمتها الديكة الرومية، وكان يستدعى لذلك طباخًا ماهرًا. أذكر أن الأخ المفضال الحاج أسعد زهران وكان مسؤول مكتب إدارى دمياط آنذاك، استضافنا نحن أعضاء مجلس الشعب المصرى (36 عضوا) ببيته فى رأس البر فى صيف عام 1987.. وكان ذلك بهدف مدارسة وتقويم التجربة البرلمانية خلال الأشهر الفائتة. وقد حضر إلينا كل أعضاء مكتب الإرشاد وفى مقدمتهم الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام. وحين جاء طعام الغداء، كان نصيب كل فرد منا 1/4 فرخة.. بعدها بستة أشهر تقريبا عقدنا اجتماعا لمجلس الشورى العام بمصر فى دار الدعوة بالتوفيقية فى القاهرة، وكان ضمن الحاضرين الحاج أسعد زهران، وجاء مقعده أمام الأستاذ أبو النصر مباشرة، وإذا به يفاجأ بالأستاذ المرشد، والمناقشات حامية الوطيس، يشير إليه أن يقترب منه ليسرّ إليه بأمر.. فماذا قال له المرشد؟ قال: 1/4 فرخة يا مفترى؟! رد الحاج أسعد قائلا: اعمل معروف يا فضيلة المرشد لا داعى للفضيحة! كان الأستاذ أبو النصر -رحمه الله- صاحب مدرسة فى التربية، وكانت من عباراته الشهيرة: «القيادة جزء من الدعوة».. ليس بمعنى أن يكون للقيادة احترامها فحسب، ولكن ضرورة أن ترتفع القيادة من حيث «الروح والهمة والانضباط والقدوة» إلى مستوى الدعوة.. أيضا: «لا تأخذ شيئا بسيف الحياء».. وهو قول سديد، فلربما أوقعت من معك فى حرج شديد، فيضطروا إلى إعطائك ما تريد على غير رغبة منهم.. كذلك: «إياك وسيف الجماعة».. كأن تقول: الجماعة قالت.. أو الجماعة تريد.. لتأخذ حقا ليس لك. فى الوقت الذى كان يعلى فيه قيمة الجندية والالتزام، كان -رحمه الله- يحرص على قيمة الفرد.. ومكانة الفرد.. إذ إن قيادة قطعان من الأغنام، لا تتساوى أبدا مع قيادة الأسود أو الأشبال.. فى الحالة الأخيرة فقط تستطيع أن تبلغ العلا وأن تصل إلى غاياتك ومراميك بعزة وكرامة.. كان يسأل عن الإخوان فردا فردا.. عن أحوالهم وظروفهم الحياتية والمعيشية، قبل أحوالهم الدعوية.. وهذا لَعَمْرى يدل على إنسانية رفيعة، هى أحوج ما نكون إليها، خصوصا فى هذا الزمان... رحم الله الأستاذ أبو النصر رحمة واسعة وجمعنا فى عِلِّيين. من المؤكد أن الأستاذ مصطفى مشهور أعطى للدعوة أيام كان نائبا للمرشد، أكثر مما أعطاه لها بعد أن صار مرشدا.. وقد مكَّنه الأستاذ أبو النصر من هذا العطاء بأقصى ما يكون. فقد تحرك الأستاذ مصطفى على جميع الأصعدة والمستويات، داخليا وخارجيا، والتقى الإخوان فى كل مكان.. ساعد على ذلك هامش الحرية الذى كان متوافرا فى هذه المرحلة. كان الأستاذ مصطفى مشهور -رحمه الله- ذا همة عالية، دؤوبا، صبورا، كما كان هيِّنا، ليِّنا سمحًا.. ورغم ما أشيع عنه أنه ابن النظام الخاص، فإنه كان أكثر الإخوان مرونة وشورى، يستشير الصغير قبل الكبير، ويعطى الفرصة الكاملة لكل صاحب رأى لأن يقول ما عنده، لا يصادر على أحد، وكان أهم ما يميزه زهده وورعه ووفاؤه لهذه الدعوة.. رافقته فى كثير من الرحلات الخارجية ورأيت منه ما يثير الإعجاب.. كنا نهتم، فى نهاية كل رحلة، بزيارة المعالم السياحية للمدينة والتسوق وشراء ما قد يحتاج إليه الأهل والأولاد من بلاد الفرنجة.. أما هو فلا.. كان جُلُّ اهتمامه ملاقاة الإخوان من كل بقاع الدنيا، ساعده فى ذلك ذاكرته الحافظة ومتابعته الدؤوب لكل ما يحدث هنا وهناك. كان -رحمه الله- يتعهد أفراد الإخوان.. لا يكلّ أو يملّ من السؤال عنهم ومتابعة أحوالهم ومشكلاتهم الشخصية، مستنفدا كل وقته وجهده لحلها.. وقد بذل جهدا كبيرا معى فى أثناء محنة ابنتى نهى خلال ال5 سنوات التى قضيتها فى السجن من عام 1995 إلى عام 2000. فى أحد الأيام شكانى إليه الأستاذ المأمون الهضيبى -رحمه الله- وكان رئيسا للكتلة البرلمانية بمجلس الشعب المصرى وكنت نائبا له، عن خطأ صدر منى فى المجلس فى حق الأستاذ إبراهيم شكرى -رحمه الله- زعيم المعارضة آنذاك ورئيس حزب العمل. التقانى الأستاذ مصطفى وحدثنى فى الأمر، فقلت: يا أستاذ مصطفى أنت تستشيرنا فى الصغيرة والكبيرة، لأنك تسعى لأخذ رأينا والاستئناس بوجهة نظرنا، لكن الأستاذ المأمون لا يفعل ذلك.. لقد مكثت إلى جواره بالمجلس عاما ونصف العام ما أخذ رأيى فى مسألة قط، فاسأله إن كان فعل ذلك مرة واحدة، فأنا على استعداد لقبول وتنفيذ ما ترون.. الذى حدث بعد ذلك أن الأستاذ مصطفى ذهب.. ولم يعد.. ورحم الله الجميع وغفر لنا ولهم. ومن متابعاته وتفقده -رحمه الله- لما يحدث من الإخوان فى المكاتب الإدارية، أن جاءه من أعضاء أحد المكاتب من يشكو إليه مسؤول هذا المكتب.. قال لى مستنكرا: ما هذا الذى يحدث يا أخ محمد؟ لقد خرج من المكتب الإدارى هذا فلان وفلان.. هل هو نظام «تطفيش»؟ أرجو أن تجد لذلك حلا. عقب وفاة الأستاذ محمد حامد أبو النصر المرشد العام للإخوان المسلمين، وبعد إتمام الدفن مباشرة دعا الأستاذ لاشين أبو شنب الإخوان المشيعين أمام المقبرة إلى مبايعة الأستاذ مصطفى مشهور كمرشد عام للجماعة، وهو ما أطلق عليه البعض بعد ذلك «بيعة المقابر».. كنت فى هذا الوقت فى السجن.. والحقيقة أنى كنت أتساءل عن الدافع الذى حدا بالأستاذ لاشين ليقوم بهذا التصرف، خصوصا أن هناك لوائح تحكم الجماعة من جانب، وأنه لا خلاف على الأستاذ مصطفى مشهور أن يكون مرشدا من جانب آخر كما أوضحت سابقا. 8- مشكلات أخرى: - هناك مشكلات تواجه الجاليات العربية والإسلامية فى الغرب، خصوصا بعد 11/9/2011، من حيث الوجود والاندماج داخل المجتمعات الغربية. - هناك الإسلاموفوبيا.. الخوف والرعب من الإسلام. - هناك الإساءات المتتابعة لمقدساتنا وقيمنا، والتى لا تتوقف، باسم ممارسة الحرية فى الغرب! - هناك ملفات شائكة وصعبة ومعقدة فى المنطقة العربية والإسلامية: الملف الإيرانى، والسورى، والعراقى، واللبنانى، والسودانى، والصومالى، والموريتانى، والأفغانى، والباكستانى. - هناك ملف مياه نهر النيل، والخطر الذى يتهدد مصر. كل هذه الملفات تحتاج إلى تضافر كل الجهود وتكاتف كل القوى، على مستوى الدول والحكومات العربية، والإسلامية، والمنظمات الإسلامية، ومؤسسات المجتمع المدنى. لقد ترددت على ألمانيا عدة مرات، وزرت المركز الإسلامى بميونخ ونورمبرج وفرانكفورت.. كانت فرصة للقاء الجاليات العربية والإسلامية فى هذه الأماكن. وإلقاء عدة محاضرات، خصوصا فى أيام الإجازات.. استمعنا إلى المشكلات التى تواجه العرب والمسلمين هناك.. بالطبع تغيرت الحال بعد الحادى عشر من سبتمبر 2001، وكانت هناك حملات إعلامية شرسة وضارية ضد الإسلام.. وقد لقى العرب والمسلمون جراء ذلك عنتا وأذى شديدين. زرت أيضا بريطانيا (لندن وبرمنجهام). 9- تركيا.. إسطنبول.. فى القلب: كانت تركيا خصوصا إسطنبول، من أكثر البلدان التى تأثرت بها أيَّما تأثير، وقد قمت بزيارتها مرارا فى الثمانينيات والتسعينيات.. الأذان هناك يأخذ بمجامع القلب، والفضل فى ذلك كما هو معروف يرجع إلى عدنان مندريس، صحيح أنه لم يكن صاحب أجندة إسلامية لكنه تبنى خط الحريات، منها احترام حرية التعبير، وأن العلمانية يجب أن تكون متصالحة مع الدين. وكانت النتيجة انقلاب الجيش عام 1960 وإلغاء كل القرارات وإعدام مندريس. كنت أنزل فى الفجر للصلاة فى مسجد قريب من الفندق، وكنت ألتقى مجموعات من الشباب التركى بعد الفراغ من الصلاة، كان يلتف حولى ويسألنى عن مصر وعن الإخوان المسلمين، وعن الشهيد سيد قطب. لم يكن حزب العدالة والتنمية قد برز على الساحة بعد، غير أن الجهود المضنية التى بذلتها الحركة الإسلامية بقيادة نجم الدين أربكان مهدت السبيل لما عليه تركيا الآن. التقيت خلال سفراتى المتعددة مجموعة من الدعاة الأفاضل والعلماء الأجلاء من أمثال العلامة الدكتور يوسف القرضاوى، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والدكتور مناع القطان، والأستاذ فتحى يكن، والمستشار فيصل مولوى، ومحمد عبد الرحمن خليفة، ومحمد عبد القادر أبو فارس، وعبد المنعم صالح، وغيرهم.. وقد نهلت من علم هؤلاء السادة الأفاضل كثيرا.. كيف يفكرون، كيف يتحاورون، كيف ينظرون إلى القضايا الكبرى. فى إسطنبول، وبخاصة الأحياء القديمة، كنت أشعر أنى أتجول فى القاهرة، وأن ثمة علاقات تاريخية وروابط إنسانية تجمعهما.. صلاة الجمعة فى مسجد السلطان محمد الفاتح لها طعم ومذاق خاص.. ولا أتصور أن أحدا من المسلمين يأتى إلى إسطنبول ثم لا يصلى فى هذا المسجد. وقد زرت سور القسطنطينية ورأيت لِمَ كانت إسطنبول عصيّة على الغزاة ولم تفتح إلا على يد هذه الشخصية الفذة محمد الفاتح -فى 29 مايو عام 1453م- لقد تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «لتفتحن القسطنطينية فلَنِعم الأمير أميرها ونِعمَ الجيش ذلك الجيش». وقد صليت أيضا فى مسجد «أيا صوفيا» ذى المآذن الأربع، الذى كان كنيسة من قبل الفتح. والذى ينظر إلى مآذن المساجد التركية يجدها تشبه إلى حد كبير الصواريخ عابرة القارات وهى فى حالة استعداد للانطلاق. لا يمكن لأى زائر لمدينة إسطنبول أن يغفل زيارة الباب العالى، الذى يُطلَق عليه طوب كابى، الذى كان يمثل مركز الحكم فى الدولة العثمانية من 1465 إلى 1853م، قضيت فيه يوما كاملا أتجول بين أروقته، هذا جناح ولى العهد، وذاك جناح والدة السلطان، وآخر يمثل ديوان السلطان، ووزرائه، وهكذا. وقد تحول القصر إلى متحف مذهل يضم مجموعات كبيرة من الخزف والأسلحة وصور السلاطين العثمانيين، فضلا عن الآثار التى نُقلت من مصر وتخص النبى (صلى الله عليه وسلم). فى تلك الفترة كانت القنوات الفضائية وكذلك بعض الصحف اليومية لا تقل إسفافا وإباحية عن نظيراتها فى بقية بلدان أوروبا، وكنت حينما أنزل للتريض بعد صلاة الفجر ألاحظ تجمعات العمال حول بائعى الصحف وهم متلهفون على مشاهدة الصحف الإباحية، وكأنها هى الوجبة الدسمة التى يتناولونها كل صباح. كان واضحا آنذاك سيطرة العلمانية بشكل سافر عن طريق الجيش والإعلام ورجال المال والأعمال، رغم أن تركيا فى الأصل لا يوجد بها غير المسلمين.