الزمان 2005 - المكان مصر، قام الرئيس المصري بتعديل للدستور استفتى عليه الشعب ووافق عليه، فعُمل به، وأجريت أول انتخابات رئاسية في مصر الجمهورية منذ إعلانها في 1953، وأطل علينا مبارك المرشح في صورة أعادته ثلاثين عاما إلى الوراء؛ بقميص أبيض ورابطة عنق يوحيان بأن الرجل يعمل ليله ونهاره، دون أن يكون لديه فرصة ليلبس الجاكيت ! وخاض (المعركة) الانتخابية ضده تسعة مرشحين لزوم استكمال الديكور؛ كلهم من الأحزاب التي كانت قائمة تلك الأيام، وانتهت المسرحية بفوز الرئيس بالرئاسة للفترة الخامسة بجدارة، وصفق جمهور المشجعين المتسلقين، ثم انصرفوا إلى أعمالهم وصفقاتهم وبيع بلادهم... وفي 2010 أجريت (أقذر) انتخابات في تاريخ مصر البرلماني؛ فشرت استفتاءات عبد الناصر بتاعت 99،9 ٪، في غياب مايسترو انتخابات الحزب الوطني المعتاد كمال الشاذلي (غفر الله له)؛ فتولى جمال وعزمي وعز وصفوت وسرور ترتيب الأوراق لتزوير الانتخابات، واستخدموا كل ما أوتوا من ذكاء متواضع، وسلطة مطلقة ليولد مجلس للشعب ليس فيه عضو واحد معارض، وبضعة مستقلين انضموا بعد نجاحهم إلى الحزب الوطني الحاكم، وكان ذلك التشكيل العصابي لمجلس الشعب لتمرير توريث الحكم لجمال عبر (ممثلي) الشعب، فالرجل الكبير تعدى الثمانين، والزهايمر بدأ يغزو عقله وأعصابه، والسرطان أصاب مرارته، وآن له أن يستريح.. وليكن تقاعده مريحا دون مساءلة؛ فمن سيجرؤ على مساءلته وابنه الرئيس ؟
وجاء عام 2011 وجرت الرياح بما لم تشته سفنهم، فلا الشعب راض عنهم ولا من يطمحون للرئاسة راضون عن التوريث، فقام بضعة آلاف من المتعلمين والجامعيين بمسيرة سلمية يوم 25 يناير ليطالبوا بالعدالة الاجتماعية والإفراج عن المعتقلين، ومعاقبة الضباط المتهمين بالتعذيب.. لم يدر في خلد واحد منهم أن ذلك اليوم سيصبح يوم انطلاق شرارة الثورة، ومر يوم25 و26 و27، وفي آخر يوم 28 يناير انتهت الثورة !
وهنا وقفة.. التعريف الموسوعي للثورة هو أنها ( حركة يقوم بها الشعب، ليستبدل النظام القديم بنظام جديد، دون الاعتماد على أية جهة أخرى – كالجيش مثلا – وهو ما يفرق الثورة عن الانقلاب العسكري الذي يقوم به الجيش، ولا يترتب عليه تغيير النظام، بل يتبعه إعادة توزيع السلطات )..
بناء على هذا التعريف للثورة؛ تصبح أربعة الأيام الأولى من 25 إلى 28 يناير مجرد محاولة للثورة، وشرارة انطلقت من ميدان التحرير في القاهرة، طالت ميدان القائد في الإسكندريةوشوارع السويس، أطفأها قرار حظر التجوال، ونزول الجيش إلى الشارع، وماتت.. ولُف جثمانها في كفن أبيض كتب عليه بدماء الذين سقطوا: (الشعب والجيش إيد واحدة) !
ومرت الأيام، واحتفل المصريون في 25 يناير 2012 بالعيد الأول للثورة، في ظروف اقتصادية صعبة، وأزمات متلاحقة متلاقحة، وانعدام أمن ونظام لتراخي الداخلية في أداء دورها، ولا يزال الجيش في الشارع، ولا زالت الجملة المأثورة مكتوبة على كل المدرعات والعربات المسلحة: الشعب والجيش إيد واحدة !
وفُتح الباب للترشح لانتخابات الرئاسة، وتتابع المرشحون يسحبون أوراقهم، ويقدمون توكيلاتهم، وكانت في الأيام العشرة الماضية عدة مفاجآت؛ أولاها افتضاح أمر جنسية السيدة والدة حازم أبو إسماعيل الأمريكية، (قال يعني ما كانش ولا كانوا عارفين !) ، وثانيها تقدم الإخوان المسلمين بمرشحهم خيرت الشاطر، ثم (بدوبليره) محمد مرسي؛ رغم تعهدهم سلفا بعدم تقديم مرشح للرئاسة؛ وهي حركة أعتقد أنها نوع من الدهاء السياسي بدأ الإخوان يمارسونه إعلانا منهم للناس دخولَهم حقل السياسة، والمفاجأة الثالثة موافقة اللواء عمر سليمان على الترشح وسحْب أوراق ترشيحه، وسيقدم توكيلاته اليوم التالي.. طب ما كان من الأول! المهم أن المفاجأة الكبرى كانت قبل شم النسيم بيومين حين حرمت لجنة انتخابات الرئاسة المرشحين العشرة من خوض الانتخابات؛ ومن بينهم الشاطر وأبو اسماعيل وسليمان ونور ومنصور، فما الذي تنوي عمله القوي الخفية في مصر ؟
كان لازم يعني البلد تتدمّر ؟ كان لازم نركع ونقر بأننا كنا مخطئين ؟ كان لازم ولادنا يموتوا وعينيهم تروح ؟ كان لازم أقسام الشرطة تتحرق وسلاحها يتسرق ؟ كان لازم السجون تتفتح وأمن البلد يتفشخ ؟ كان لازم تثبتوا لمبارك إنه اعتمد على حيطة أمن الدولة المايلة؛ فخدته ووقعت ؟ ما كنتوا قولوله من غير ما تقع الداخلية ! كان لازم يتحرق المجمع العلمي ومبنى أمن الدولة ومبنى الضرايب ومن قبلهم مبنى الحزب الوطني الذي تُرك على حاله، لا أعرف لماذا ؟ كان لازم يتحكم في حياتنا سائقو الميكروباص والبلطجية، ويقتل الناس بعضهم بعضا في طوابير البنزين والسولار وأنابيب البوتاجاز ؟ كان لازم تسيبوا الناس على بعض؛ تكره في بعض وتسرق في بعض وتعض في بعض ؟ كان لازم يصبح صوت إطلاق الرصاص في آذاننا عاديا كصوت أوتوبيس معدّي ؟ كان لازم ولادنا يموتوا في بورسعيد وأمام ماسبيرو وأمام مجلس الوزراء وأمام الداخلية ؟ كان لازم يُفتح باب الهجرة الشرعية؛ فتُفرَّغ البلاد من خيرة شبابها وأموالها وعقولها، ويغرق أبناؤها الغلابة في قوارب الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط ؟ كان لازم يتناقص احتياط النقد الأجنبي في البنك المركزي، وتلجأ الحكومة إلى الاقتراض لتزيد ديوننا ديونا ؟ وتهددنا كل يوم بأن مصر شارفت حافة الإفلاس ؟ كان لازم الناس تفقد ثقتها في عدالة القضاء بالمحاكمات البطيئة الصورية، وتهريب المتهمين الأمريكان ؟ كان لازم يعني تبقى رقبة مصر قد السمسمة ؟
أبحث في المشهد السياسي المصري عن بادرة أمل، فلا أجد، أبحث فيمن نرى على الساحة عن مخلصين أوفياء؛ فلا أرى منهم إلا ملالا، أبحث عمن يمكن أن يكون ذا رأي رشيد؛ فلا أعاين إلا عنادا وخبالا، وتغيم الرؤية وتغرق في الضباب، يتملكني الإحساس بالمؤامرة المدبَّرة فيتسلل اليأس إلى قلبي من إصلاح الأحوال.. وأعود فيشرق في نفسي قول الله تعالى: (ولا تيأسوا من رَوح الله إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون)..صدق الله العظيم.. إسلمي يا مصر بقى..!