كلما ظهرت الأحزاب الكرتونية والاصطناعية في المشهد، وكلما حضر رجال الأجهزة والسلطة، واحتضنتهم اجتماعات رسمية بصفة مفتعلة، ويتم تكليفهم بالمهمات المكشوفة وتوصيل رسائل جس النبض والإسهام بلخبطة أوراق وحسابات القوى السياسية، وكلما استمرت عقيدة إقصاء الشباب الذين دفعوا الدم لإعلاء أهداف الثورة، وممثليهم من أي حوار، خاصة في هذه اللحظات الفارقة. تيقنت أننا على أعتاب لعبة جديدة يتم التمهيد لها، وفيها كل السيناريوهات مفتوحة، وكل المفاجآت متوقعة، وكل الأخطار في مسلسل إنهاك الثورة والقابضين على حلمها محتملة. أمر الثورة لمن يعنيهم أمرها يحتم عليهم الآن أن يستعيدوا وعيهم وصلابتهم ووحدتهم وانفتاحهم على الجميع وتمسكهم بتحقيق الأهداف التي خرجوا من أجلها والتف حولهم الملايين، رغم كل محاولات زرع اليأس والتشويه والاستنزاف.
وأرجو ألا ينسى هؤلاء لحظة أن نبل مقصدهم خير وأبقي، وأنه منذ أقل من ثلاثة شهور ماضية فقط خرجت الملايين على نحو غير مسبوق منذ خلع مبارك تجدد عهدها للثورة وتتمسك بها في رسالة وصلت للجميع. لذلك ليس غريبا في هذه الأجواء أن تتجدد الدعوات للعودة للميدان الذي حاولت بعض القوى السياسية أن تعلن انتهاء مهمته، وأن تحول وجود الملايين فيه في 25 يناير الماضي إلى احتفالية ختامية نوجه فيها الشكر ونكثر الدعاء له بعد أن قضت منه وطرا واكتفت بشرعية البرلمان، ودخلت من أجل ذلك في جدل وصل للأفعال الخشنة في الميدان، والأقوال المتوعدة في البرلمان لكل نائب يعلي من شأن شرعية الميدان أو يصمم على أنه يستمد شرعيته منه، لكن المثير أن من أفتوا بذلك بالهوى السياسي "للتنظيم"، كانوا الأكثر تعجلا بالعودة إلى الميدان بالحساب السياسي "للجماعة". لكنهم حسنا فعلوا، فهذا هو الموقف الصحيح شرط أن نتعلم جميعا أن يكون الهوى للثورة واحترام دماء الشهداء، وأن تصب الحسابات في خانة الانحياز لتضحيات الشعب المصري ولتحقيق أهداف ثورته، ومليونية "راجعين للميدان تاني" غدا هي اختبار للجميع وامتحان لكل القوى إما أن تكون نقطة عبور جديدة لانطلاق الثورة من عثرتها وتفادي كمائن كل القوى المضادة لها، أو أن تكون حلقة جديدة من حلقات المكر السياسي ولعبة الاستنزاف وإعلاء لغة الخنادق والحسابات الضيقة ومزيد من وقت ضائع كلفته باهظة وتضحياته كبيرة، ويمكننا جعل هذا اليوم رجوعا حقيقيا للميدان بالعودة لروحه ولدستوره ولأخلاقه وأن يكون امتدادا "لجمعة الغضب" و"أسبوع الصمود" و"جمعة الحسم".
وعلينا أن ندرك أن عودتنا للميدان هي عودتنا للأصل الذي من أجله ذهبنا إليه لأول مرة، وأن تكون القوى السياسية التي خرجت منه مبكرا قد آمنت بأن الخلاص الفردي بالصفقات هو الانتحار السياسي بعينه، وأن الوطن كما الميدان يكون للجميع وانه لن يستطيع أحد أن يحقق لتياره السياسي شيئا إلا بالإنجاز العام للجميع في وطن تتحقق فيه العدالة والحرية والإيمان الحقيقي وغير المزيف بالديمقراطية وتداول السلطة. وأُذكر الجميع بالوثيقة المهمة التي انتهت إليها لجنة التحقيق وتقصي الحقائق بشأن الأحداث التي واكبت الثورة بعد شهور قليلة من أحداثها، والتي انتهت إلى وصف الثورة بأنها ثورة اجتماعية كاملة بمعني الكلمة وشكلت حدثا فاصلا بين عهدين ونقلة كبيرة بين نظامين، وأن عوامل إشعال الثورة تعددت، ومنها الفساد السياسي والغياب شبه الكامل للحريات العامة والأساسية والديمقراطية الديكورية وغيبة العدالة الاجتماعية وانتشار الرشوة والمحسوبية والقمع الأمني والتضليل الإعلامي.
التقرير يذكرنا أيضا بأن الثورة أعطت لكافة المصريين الأمل في مستقبل أفضل وأن بإمكان شباب مصر النهوض بها إلى أعلى عليين وأنه تبدى ذلك في السلوك المتحضر للمتظاهرين في الميدان من شباب وشيوخ ورجال ونساء في تحمل الصعاب والإصرار على تحقيق مطالبهم وإسقاط النظام، وذلك بعزم لا يكل وبشكل سلمي وفي تلاحم الجميع مسلمين ومسيحيين، كما أكد الثائرون إرساء المواطنة فكرة وتطبيقا في أرقي درجاتها، بحيث يكون الولاء مؤسسا على الوطن، وأن الثورة في ميدان التحرير كانت وطنا مصغرا يسير إلى الأمام حاملا تراث هذه الأمة الحضاري والثقافي والروحي ومداعبا آمال المصريين في النهوض.
لا إنقاذ لأهداف الثورة إلا بالميدان.. لكن ميدان الشهداء والثورة أكبر من الخنادق السياسية.. وعلى كل العائدين خلع أرديتهم الحزبية على بابه.