قام أحد الشباب المشاركين في مظاهرة يوم 27 مارس الماضي، لرفض قانون شرف/طنطاوي الخاص بالتظاهر و الإضراب، بترديد هتاف (مش حنخاف مش حنطاطي، أحنا أخدنا علي المطاطي). لديه كل ملامح طلاب المدن الجامعية الريفيين. و لا يبدو انتماؤه لنخبة ما قبل 25 يناير “الثورية”. ينتمي إلي فئة جديدة لم نعرفها من قبل، و هي فئة الآلاف من المواطنين الصامتين، و الذين فتحوا يوم 25 يناير بابا جديدا للحياة، ليس فقط عبر المشاركة النشطة في كل فعاليات ثورتنا منذ اللحظة الأولي، و هو ما مارسه الملايين و ليس الآلاف، و إنما أيضا من خلال وعيها بأنه فقط عبر النضال السياسي المباشر، و المخاطرة بالذات، تتغير حياتنا. لن أثرثر حول مميزات هذه الفئة الجديدة من المناضلين السياسيين، و ما يميزها عما سبقها، كونها قد خرجت من رحم ثورة قد أنجزت و مازالت تنجز مهامها. فقط أكتفي بتقرير حقيقة أن أمثال هذا الشاب هم من منحوا الثقة لدي الملايين في هذه الثورة، أعطوها استمراريتها و وقودها الفعال، و هم أيضا أول و أهم نتائجها. كونهم لم يعودا لمنازلهم مقهورين و مهزومين مثلما حدث مرات كثيرة علي مدار تاريخنا. منذ 25 يناير و نحن نندفع ما بين التفاؤل العارم و الإحباط المرير، و أحيانا ما يفصل ما بين الإحساسين بعض الدقائق. يعرف هذه الحقيقة الكثيرون ممن ناموا علي رصيف ميدان التحرير، و أيضا يعرفها الآلاف الذين لم يتمكنوا من هذا التواجد المباشر، إلا أنهم قد لعبوا أدوارا أخري كي تستمر أكبر ثوراتنا الشعبية. في أحد الليالي بعد رحيل مبارك، قلت مازحا لأحد الأصدقاء، أنني اكتشفت أنني لا أحب الثورات، لأنني لا أحتمل تبدل مزاجي و مشاعري بهذا الشكل الحاد كل دقيقة، و لا أحتمل اللهاث طوال الوقت. أجابني ببرود – برغم مشاكله مع زوجته و تركه للمنزل لعدة أسباب منها توتر ثورة يناير – بأن هذا الإرهاق و التوتر طبيعي و علينا أن نتعلم التحكم به. أتساءل هنا، هل يعاني الشاب الذي هتف الشعار يوم 27 مارس من نفس الشعور؟ لا أعرف الإجابة. برغم اعتقادي بأن بعض القراء يعرفونها. و لكي لا نغرق في مشاعر التفاؤل و التشاؤم البسيطة، و للعودة لهذه الفئة التي أشرت إليها سابقا، فئة أول نجاحات الثورة و ضمانة استمراريتها، أعتقد أن هناك شواهد كثيرة علي أنها سوف تشكل تيارات العمل السياسي، النضالي، في مصر الجديدة. و بالذات وقد تعلمت أن الأهداف تتحقق في الشارع ولا تمنح من قبل الجيش. هذه الفئة التي لم تطحن (ببلاش) و حققت انتصار إسقاط مبارك، و هي في الشارع، تعلم زيف شعار (الجيش و الشعب إيد واحدة) حتى و إن رددته بعض الأحيان و أعينها علي الجنود و الضباط الصغار. هي ذاتها التي نامت أمام جنازير الدبابات حين حاول الجيش تضييق مساحتنا المحررة في وسط البلد. و أدعي أنها تعلم جيدا، دون ثرثرات المحللين، أن الجيش كان يستهدف عودتنا لبيوتنا قبل خلع مبارك، كونه مكسبا شعبيا شديد الخطورة علي المستوي المعنوي، كان ينبغي أن ينسب لقيادات الجيش و ليس للحركة الشعبية. و تعلم أيضا أنه بعد أيام قليلة من بداية الثورة تم اتخاذ قرار من قبل الأمريكيين و الجنرالات بأن مبارك قد انتهي. التأخير فقط كان لمنع هذا الشاب الريفي من أن ينتصر. لقد انتصر فقط عبر وعيه و قيم الصبر، الإصرار، و الشجاعة. بالرغم من أن النخب السياسية لم تفعل أكثر من المساومة علي دمه و حماية ذاتها. بالطبع يجب أن نستثني المناضلين السياسيين و التيارات السياسية التي انحازت منذ اللحظة الأولي حتى الأخيرة إلي الشارع. هناك طريقان لفهم ما يحدث الآن، و الطريقان يؤديان لنتائج متناقضة. الطريق الأول هي أن الثورة انتهت يوم 11 فبراير و إننا أمام مرحلة التحول الديمقراطي، و هو ما يعني أننا هزمنا و لم نحقق سوي بعض المكاسب، قياسا بحجم و أهداف ثورتنا، فلم نحطم بعد النظام الاستبدادي. الطريق الآخر للفهم هو أن مرحلة الثورة الأولي قد انتهت يوم 11 فبراير لتبدأ المراحل الأخرى، و أن الثورة ستستغرق وقتا طويلا، و لن تخلو من محطات دموية و ربما أكثر عنفا مما سبق. و هو ما يؤدي إلي ضرورة دعم استمرارية الحركة الجماهيرية الثورية لإنجاز مهام هذه الثورة، بعد أن أطاحت فقط بجزء من النظام. هذه الطريقة في الفهم هي ما تبرر نفي وجود ما يسمي (بالثورة المضادة). ما أفهمه – و ربما أكون مخطئا – أن الثورات المضادة تندلع بعد نجاح ثورات الشعوب. لكننا لم ننجح بعد. نحن فقط في البداية، وأعتقد أن هذا الشاب الريفي يعي بأن معركته مستمرة ضد سيطرة العسكر، ضد نظام يمنحنا فقط بعض الحسنات، و بالتنقيط، مقابل ضغطنا عليه، ولا يكف عن إصدار القوانين الاستبدادية و المقيدة للحريات. هذه الفئة الجديدة من الثوار هي أيضا ضد أي استخدام للدين في السياسة و في حياة المواطنين، و تعلم إنها و إن شاركت بعض التيارات الإسلامية في رصيف ميدان التحرير، إلا إن بعض هذه التيارات ليس من مصلحته تحقيق تغيير حقيقي و ديمقراطي في جوهر النظام، و أن المرحلة التي كانت خلالها الأهداف مشتركة، قد انتهت. مثلما تعلم أن الجيش المصري يختلف عن التونسي، و أن جيشنا يتم التحكم به، بالكامل، و منذ عقود، من قبل واشنطن، و بأنه جزء من نظام مبارك، و بأن (المشير) ينتمي لنفس النظام الذي أسقطنا جزءا منه. يوم 10 فبراير، يوم التنحي المزيف، حدث خلاف في ميدان التحرير، ما بين أقلية رأت ضرورة أن يستمر الاعتصام حتى تشكيل مجلس رئاسي يدير البلاد، مع مجرد تمثيل رمزي للعسكر به، و بين الأغلبية التي كانت تري – و ربما علي حق – بأن إخلاء الميدان طبيعي و ضروري. كان يدعم موقف هذه الأغلبية الإرهاق السائد داخل الميدان، و ضرورة أخذ هدنة لاسترداد الأنفاس. فهم البعض الهدنة علي أنها نهاية للثورة. إلا أن ما حدث في جمعة إسقاط شفيق، اقتحامات مقار أمن الدولة، و جمعة الأول من أبريل، يشير فقط إلي أن الحركة الشعبية الثورية تعي و بوضوح بأن معركتها لم تنته. قطاعات واسعة، ربما أصابها الإرهاق، إلا أنها حين ترتاح قليلا، سوف تعاود (استطعام) انتصاراتها، و ترغب في المزيد. المزيد و الكثير، و من ضمنه تحجيم مجموعات الشعوذة السلفية، و إجبار الجيش علي التقاعد نهائيا في ثكناته، و هو ما يتحقق فقط، عبر قيادة هذا الشاب الريفي لنا جميعا.