جمع البخارى 600 ألف حديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، رفض أن يصدِّق منها 594 ألف حديث، فقط اعتبر 6000 حديث قابلة لأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم، قد قالها، والصحابة والتابعون قد رووها عنه. وإذا أخذنا فى اعتبارنا أن هناك ثلاثة آلاف حديث مكرَّر، يكون الصحيح لدى البخارى ثلاثة آلاف حديث نبوى فقط من أصل 600 ألف حديث.
وإذا نظرت إلى ما رواه أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم، سوف تجد أنه روى 5374 حديثا، أى أكثر مما ثبت أنه صحيح عند البخارى، أى أن هناك أحاديث رواها أبو هريرة استبعدها البخارى فى صحيحه.
وإذا عدت فنظرت إلى ما رواه سيدنا عمر بن الخطاب عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، ستجد ما هو منسوب إلى عمر بن الخطاب يصل إلى 537 حديثا فقط، لم يصح منها سوى 50 حديثا.
ماذا أريد أن أقول؟ ما الذى أحاول أن أصل إليه؟
أما ما أريد أن أقول فهو نفسه ما أحاول أن أصل إليه، وهو أنه حتى حديث النبى صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يخضع، كما علَّمونا بمدارس الحديث وكتب التاريخ، إلى نقد وفحص وتمحيص، وهو ما عرفناه فى العلم باسم علم الرجال أو الجَرْح والتعديل (ويجوز تفهمها كذلك العدل والتجريح).
ونقصد به أن ننظر فى رواة الأحاديث النبوية فنرى أيهم رجل صالح تَقِىٌّ عادل، فنأخذ منه ونصدقه إذا قال إن النبى قال، وأيهم رجل طالح غير صالح ظالم لنفسه ولغيره فنجرحه أو نجرح روايته ونرفض أن نصدقه أو نأخذ عنه ومنه شيئا، حتى ولو كان تحت اسم النبى.
نتعلم من ذلك أن لا نصدق بسرعة وفورا، وأن لا نسلم عقولنا تماما لغيرنا حتى أمام كلام النبى صلى الله عليه وآله وسلم، فما بالك بكلام الساسة والمسؤولين الذين يعتقدون أن كل ما يقولونه صحيح لا رَدَّ عليه ولا نقد فيه ولا رفض له.
لا تصدقوا مهما ادَّعى الساسة والشيوخ قداسة وحصانة، ومهما صدقهم البعض وروى عنهم. لماذا نُصِرُّ دائما على أن نمنح الناس قداسة ليست فيهم، ونرتعب من تجريح وتعديل الرجال، ومن رفض النصوص والآراء التى تخالف العقل ولا تمشى مع الدماغ؟ لقد سلَّم المسلمون فى مصر عقولهم ووعيهم لشيوخ ودعاة السلفية والوهابية الذين يُكفِّرون كل من يخالفهم من أصحاب العقائد أو المذاهب الأخرى من أول المسيحيين وحتى الشيعة مرورا طبعا باليهود وكمان العلمانيين!! وغزا التدين الوهابى مصر، وهو نوع من التدين لا يطيق المختلفين معه ويكفِّر كلَ من يخالفه الرأى أو يختلف عنه فى طقس أو شعيرة فى الدين، حتى لو كان مسلما موحدا بالله، وهو تدين صحراوى بدوى يغطس فى القشور والشكليات والتوافه والصغائر، وها هو يرفع راية نصره فوق كل بيت وشبر فى مصر.
ما لنا نصدق أناسا ينسبون إلى أنفسهم مجدًا، ويكذبون علينا ليل نهار فى السياسة والفكر والتاريخ. لدينا وعاظ ودعاة غير مثقفين، كل جمهورهم من العوام ومغيبى الوعى الدينى ومن أنصاف المتعلمين أو المتعلمين خريجى مدارس وجامعات مصر التى تحترف تخريج الجهلة بالدين والتاريخ والثقافة، ليس عندنا هذا الإمام الثورى الذى يحكى عنه الدكتور زكى نجيب محمود فى كتاب «حياتنا العقلية»، فيقول إنه مَثَل ومثال للمثقف الثورى الذى يدرك الفكرة، ولا يريد قصرها على نفسه ليتركها حبيسة رأسه، بل يخرج بها إلى الحياة الواقعة، فيجد الناس على عناد وتشبث بما ألفوه، فيكون الصراع وما يؤدى إليه الصراع من غَلبة هنا أو هناك، فقد تكون الغَلبة لصاحب الفكرة فتتغير الحياة رغم عبيد العادات المألوفة، أو قد تكون الغلبة لهؤلاء على صاحب الفكرة، فتختفى الفكرة حتى ينهض لها على مجرى التاريخ داعية جديد.
وفى ظن الفيلسوف والمفكر الراحل زكى نجيب محمود أن أبا حامد الغزالى -فى تاريخ الفكر الإسلامى- هو خير الأمثلة التى تُضرب للمثقف الثورى، لأنه غَيَّر بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون، فليس الفرق بين «المثقف» و«المثقف الثورى» فَرقًا فى الكَمِّ، بحيث يكون الثانى أغزر إنتاجا من الأول، أو أكثر فكرا منه، بل هو فرق فى «الكيف»، لأن الأول والثانى معًا كلاهما «يعلم»، لكن الثانى وحده هو الذى ينقل العلم إلى عمل وسلوك، وعلى نفس الخط وبذات المنهج كان جمال الدين الأفغانى والشيخ محمد عبده، ثم اختفى من مصر إمامها المثقف الثورى، وبقى فيها فقط من لا يكذبون على النبى، بل يكذبون على الله!